للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عِلُم ذلك عند أصحاب الأقلام الجياد، وما جاز لمشرّع أن يوازن بين لفظ ولفظ، وبين عبارة وعبارة، إلا وهو مسيَّر بقوة أدبية تدله على ما في الألفاظ والعبارات من أعصاب وأحاسيس، والألفاظ تقتتل وتصطلح كما يفعل الأحياء.

إن رجال القضاء لا ينسون أبداً أن أحد أقطاب الأدب الفرنسي كان يقرأ صفحات من (القانون المدني) قبل أن يشرع في الإنشاء، وهم يذكرون هذه القصة كلما بدا لهم أن يفضّلوا اللغة القضائية على اللغة الأدبية، فكيف غاب عنهم أن القانون المدني أنشأه رجلٌ أديب؛ وكيف فاتهم أن الدقة والوضوح لا يصدُران إلا عمن تمرّس بالإنشاء البليغ عدداً من السنين؟

وما يقال عن (القانون المدني) يقال عن (الفقه الإسلامي) فرجال الفقه في الشريعة الإسلامية كانوا من أقطاب الأدباء، وكان جهادهم في تحرير الألفاظ والمعاني يفوق جهاد أبي تمام والبحتري والرضيّ، وإن تناساهم تاريخ الأدب فلم يذكر لهم ذلك المقام المحمود.

وأرجع مرة ثانية إلى كميّة الإحساس بالوجود عند القاضي وعند الأديب فأقول:

القاضي لا يلتفت إلى إشكال إلا حين يُدعى إليه، فهو في أغلب أحواله من المحايدين، بدليل أنه لا يُفتى إلا من يستفتيه، وقديماً قيل:

(لو أنصف الناس استراح القاضي)

فهل يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى الأديب؟

الأديب لا ينتظر قدوم المستفتين من الشرف أو الغرب، وإنما يمضي فيشرّح آلام الناس قبل أن يحسوا تلك الآلام، أو قبل أن يقهرهم استفحالها على الأنين والصراخ.

والأديب يدرس الوجوه بأعمق مما يدرسها الطبيب.

ومن غرائب الأديب أنه يعرف أعمار الأصوات والملامح والعيون، فإذا حدّثه محدّث عن طريق الهتّاف أدرك عُمر ذلك المحدّث وتبَّين ملامح وجهه ولفتات عينيه، وإن لم يره من قبل

ومن هنا كان الأديب أول من يدل أمته على المخوف من الحوادث والخطوب؛ ومن هنا أيضاً كان الأدب أسبق من الطب ومن القضاء، لأنه فطره وجودية عاصرتْ أقدم عهد من عهود التاريخ.

<<  <  ج:
ص:  >  >>