للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولو كان القاضي يحسّ الوجود بمقدار ما يحسه الأديب لانتفع أعظم الانتفاع من الوجهة الأدبية بما يشاهد كل يوم من اصطراع النوازع والأحاسيس في ساحات القضاء، ولكن الواقع يشهد أن محصول القضاة في الأدب قليل قليل، بالقياس إلى الفرص المتاحة لدرس نزعات النفوس وأهواء القلوب.

والإنصاف يوجب أن نقرر أن القاضي منهيٌّ عن تعقّب الناس، فلا يجوز له أن يمرّن قلمه بتصوير ما يُعرض عليه من آثام وذنوب، وقد يحرم عليه أن يحكم قبل استخبار البينات والشهود، وإن كان يعرف كيف يفصِل بأدلة نفسية في بعض الأحايين.

القاضي لا يطالَب بما يطالَب به الأديب، والناس أنفسهم يكرهون أن يعرف القاضي سرائرهم، ولكنهم يحبون أن يُفصح الأديب عما يضمرون، لأن علم القاضي بسرائرهم أخطر عاقبةً من علم الأديب، والإنسان حيوانٌ لئيم!

وإعفاء القاضي من تعقب الناس أراحه من درس مشكلات النحائز والطبائع، إلا في الشؤون القلائل، فهو بين أهل الفكر من السعداء.

أما الأديب فهو كلَّ يوم في حال أو أحوال.

على الأديب أن يحدثك عن نفسك بما تجهل من نفسك، وعليه أن يدخل فيما لا يَعنيه فينشر المطويّ من أخبار بيتك، وإن لم (يتشرف) بزيارة ذلك البيت.

الأديب مسئول عن تقديم صورة صحيحة لكل فضيلة، ولكل رذيلة، ولكل وهم، ولكل وسواس، وهو مع ذلك مطالبٌ بالتصوّن المطلَق، فلا يجوز له أن يعرف من يشاء من طبقات المجتمع، ولا يُقبل منه أن يتعرف إلى أولئك أو هؤلاء، وإلا تعرض للمرذول من إفك السفهاء.

أما القاضي - وما أسعد القاضي! - فهو لا يحكم إلا بعد أن يشتجر في حضرته المحامون والشهود، ليعرف خفايا القضايا بأيسر عناء، ولا مُعقّب لحمه حين يحكم، وهو نفسه لا يملك الرجوع في قضائه حين يريد.

وفي هذا المأزق تظهر قيمة المسئولية الأخلاقية في حياة القاضي وحياة الأديب

القاضي ينفض يديه من كل مسئولية بعد الحكم المؤَّيد بالبينات والشهود

أما الأديب فيستفتي ضميره فيما قضاه، ولو طال الزمان، وقد يتعرض لأقبح السخرية حين

<<  <  ج:
ص:  >  >>