للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فابتسمت له وأنا أقول:

أأنت تعرفهم. أعني أصحبتهم طويلاً؟!

فنظر إلي وهو يقول:

- أأعرفهم؟!

ثم ابتسم الرجل ابتسامة حزينة واستطرد قائلاً:

- لقد ولدتني أمي في دارهم، وعشت صباي وشبابي في واحتهم الكفرة، ثم رحلت عنها فيمن رحل لا ظاعنا لأعود ولكن طريداً فقد الدار والأهل، والله وحده يعلم ماذا حل بالأم والزوجة والأطفال من بعدي. لقد أسرعت إلى بعيري ورمحي، لكن ماذا يجدي البعير والرمح والرفاق من حولي يموتون من حيث أرى ولا أرى، ولقيت ابني الصغير يهيم على وجهه باكياً صارخاً فمددت له يدي وأردفته ورائي وأسرع بي البعير يعدو، وأحسست بالطفل يسقط فأمسكته من رجله وظل معلقاً هكذا ساعة أو بعض ساعة، وأنا أعدو به وهو يبكي، وأنا لا أكاد أسمع صراخه وبكاءه وسط هذا الصخب وتلك الضجة

ثم صمت الرجل ودوى صوت الرعد رهيباً قاسيا، وثارت الطبيعة من حوله ومن حولي، وعلا صوت ارتطام الأبواب والنوافذ ودقات قطرات المطر المتلاحقة السريعة على الزجاج. . .

واستطرد يقول وكأنما هذه الطبيعة الغاضبة لا تعنيه:

- وافقت لنفسي على تأرجح البعير وهو يمشي الهوينا، وقد صمتت الأصوات من حولي، وابتلعت الصحراء صوت كل صارخ فيها وهاتف، ونظرت لطفلي فإذا هو ثابت الإحداق، وأحسست ببرودة بدنه كبرودة البئر في ليالي الشتاء، فاحتضنته وأنا أبكي بكاء لم ابكه من قبل، وسار بي البعير في دروب لا أعلمها وضللت في الصحراء طويلاً، ونفق البعير ودفنته مع الطفل وسرت وحدي كمخلوق معتسف ضال يهيم على وجهه ظامئاً ككلب يلهث. . .

وصمت الرجل ولعله كان يجاهد عبرة تتألق في محجريه، وتنهدت وأنا أقول له:

- ما اسمك؟. . . قال:

- فرحات. . . فرحات يا سيدي، وإن كنت لم أنعم بهذه الفرحة التي وسموني بها قط!. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>