إن كان في قراء (الرسالة) من يرضى عن مقالاتي في هذه الأيام فأنا عن تلك المقالات من الساخطين، لأنها بعيدة عما أريد أن أقول، ولأنها تصورني بصورة من لا يشعر بما في الدنيا الحاضرة من هموم وأرزاء
وقد نظرت فعرفت أم روح الغزالي ينتقم مني، فقد جاء في (كتاب الأخلاق عند الغزالي) ما نصَّه بالحرف:
(بينما كان بطرس الناسك يقضي ليله ونهاره في إعداد الخطب وتحبير الرسائل لحث أهل أوربا على امتلاك أقطار المسلمين، كان الغزالي غارقاً في خلوته، منكبّاً على أوراده، لا يعرف ما يجب عليه من الدعوة إلى الجهاد. ويكفي أن نذكر أن الإفرنج قبضوا على أبي القاسم الرملي الحافظ يوم فتح بيت مقدس، ونادوا عليه ليُفتَدى فلم يَفده أحد، ثم قتلوه وقتلوا معه من العلماء عدداً لا يحصيه إلا الله، كما ذكر السبكي في الطبقات. . .
وما ذكرنا هذه المأساة إلا لنعدّ القارئ لفهم حياة الغزالي، ولنقنعه بأنه ليس من الحتم أن يكون الرجل الممتاز بعلمه صورةً لعصره، فإن كُتب الغزالي لا تنبئنا بشيء عن تلك الأزمة التي عاناها المسلمون حين ابتدأت الحروب الصليبية. . . ومن الخطأ أن نقصِر الأخلاق على سلوك المرء كفردٍ مستقلّ عن الحياة الاجتماعية، فلكل ظرفٍ واجباتُه، ويتعسر وجود حالة لا تقضي فيها الأخلاق)
كذلك قلتُ في التثريب على الغزالي بلا ترفق ولا استبقاء، فأين أنا اليوم؟ وما صلة ما أكتب بظروف هذه الأيام؟ وماذا يقول الإخلاف إذا نظروا فرأوا أن مقالاتي في سنة ١٩٤٢ خَلتْ من الحديث عن معترك المطامع الأوربية في الأقطار الإسلامية؟
هل يوجد في الإخلاف المنتظرين من يعتذر عني فيقول إن الأدب الصِّرف كان في سنة ١٩٤٢ باباً من أبواب الجهاد، وإنه كان يجوز للأديب أن يصم أذنيه عن أصوات المدافع ليتسمّع صرير الأقلام؟
لو اعتذرتُ عن الغزالي لوجدت من يعتذر عني. وكما يدين الفتى يُدان!