للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تدور فيها أكواب الحديث، وهو لا يقدِّم لأضيافه غير أكواب الحديث، لأنْ العقَل نهاه عن الشراب قبل أن ينهاه الطبيب.

وما كادت العاصفة تسكن حتى سلكت الطريق إلى ذلك الصديق، وهو لا يسلكه عابر في ليله ظلماء إلا إذا كان على مع حبيب

كان المسيو دي كومنين في توحد الليث، فقد قضت ظلمات الأيام الأخيرة بأن يقرّ الناس في بيوتهم، فلا يسمر صديق مع صديق. . . ولا تسأل كيف طابت نفسي حين عرفتُ أنني السمير الوحيد في ذلك المساء، مع رجلٍ صِيغَ روحه من لباب الضياء.

كانت غابة الليسيه في تلك الليلة تكابد الشوق إلى من يتنقل بين أشجارها من وقت إلى وقت، ليُشعرها بأن في الوجود أرواحاً لم تشغلها مزعجات الحوادث عن الاستماع للأغاريد المطوية في ضمير الحفيف. . . وهل تصمت أشجار مصر عن التناجي بالحفيف في أي زمان؟

تحدثنا بجانب كل شجرة، وسلَّمن على كل مكان، حتى المكان الذي أوصى المسيو دي كومنين بأن يدفن فيه، بعد العمر الطويل العريض.

وطال الحديث حتى استغرق أكثر من خمس ساعات، فأستاذنت في الانصراف، بعد أن شكرت للمسيو دي كومنين لطفه البالغ في إمتاع روحي وعقلي بذلك الحديث.

ويهتف هذا الصديق بالسائق ليوصلني بالسيارة إلى داري، فلا يجده، وينادي الحارس ليصل جناحي بضع خطوات، فيعرف أنه يرابط في ناحية نائية، فيعلن أسفه على أني أسير وحدي في ذلك الظلام المحفوف بالحتوف، ولكني أطمئنه فأقول: إني لا أعرف ولا أصدِّق أن في الدنيا رجلاً أقوى مني، فليجرب اللصوص حظهم في مصاولتي، إن كان في (مصر الجديدة) لصوص غير سُرَّاق القلوب، وأنا قد نجوت من المعاطب الوجدانية في مصر الجديدة، فما خوفي على جيبي وقد نجا قلبي؟!

كان الطريق موحشاً أعنف الإيحاش، وكان الليل كأنه الليل!

طاخ، طاخ، طاخ!!!

وألتفت فإذا المدافع تنطلق من كل صوب، ولم يسبقها نذيرٌ من صفارة أو بوق، وأنظر فأرى لهيبها ودخانها يثوران فوق رأسي، فأسرع بالدخول في بيت بلا أبواب، بيت لا يزال

<<  <  ج:
ص:  >  >>