وكلهم يشيع في وجهه السرور، ويهنئ صاحبه، لأن الله حباهم نبياً من أنفسهم، عزيز عليهم، به رجحت كفتهم، وأنقذوا من نير مضر وسورة سلطانهم، وها هم أولاء يجتمعون ليشاهدوا آياته، فتملئ قلوبهم إيماناً
وفي الأصيل وقف مسيلمة على دكان بصدر المجلس وقد اختفت قسمات وجهه تحت لثامه الغليظ فلم تبد منه إلا عينان خبيثتان تدوران في الجمع الحافل، وتلحظان فيض العاطفة على الوجوه، وتقرءان في العيون الأيمان والسخرية. وكان ممتقع اللون، يرفض جبينه عرقاً، يهوله ما يقدم عليه من خطب ويخشى العاقبة. ثم ثبت يده على عكازه التي اعتمد عليها واستفتح كلامه حامداً الله الذي حمى اليمامة وأعزها بنبيها، وأفاض في الثناء على أهلها وثباتهم، وناشدهم أن يعينوه بقوة على محمد شريكه في الرسالة، ليستخلصوا نصيبهم من بين يديه. ثم أعلن أنه سيعرض عليهم معجزاته الناطقة برسالته، لتطمئن قلوبهم. تنفس الجمع الحاشد، ونظر بعضهم إلى بعض متلهفين إلى ما يأتي به من خوارق ومعجزات، وكان مسيلمة قد اختفى وراء ستر نصبه بينه وبين الحائط، فرجع وفي يده قارورة داخلها بيضة، كان قد أطال انقاعها في الخل حتى لان قشرها الأعلى، فمدها فامتدت كالعلك فأدخلها قارورة ضيقة الرأس، وتركها حتى جفت ويبست، وكلما انضمت استدارت حتى عادت سيرتها الأولى
قال: هاكم آية من آياتي نزل بها عليّ الرحمن، ترتفع عن قدرة البشر. بيضة كبيرة، غير مقشورة، في قارورة. أجيبوني بآبائكم، من أدخلها فيها غير ربكم. أم هل فيكم من يفعل من ذلكم شيئا؟ وناول القارورة أحد الجلوس، فتقاذفتها الأيدي، متأملين المعجزة العجيبة، والبدعة الغريبة.
ثم دار بعينيه في دار (مجاعة) فرأى زوجاً من الحمام مقصوص الريش، واقفا على عود في حائط كانت الأعوان قد هيأته لتلك الفرصة، فالتفت إلى مجاعة وقال له:
- إلى كم تعذب خلق الله بالقص؟ ولو أراد الله للطير خلاف الطيران ما خلق لها أجنحة، وقد حرمت عليكم قص أجنحة الحمام
فقال مجاعة كالمتعنت -: فسل الذي أعطاك في البيض هذه الآية أن ينبت لك جناح هذا الطائر الساعة.