في الأرض، وترك للزمن إنباتها وإحياؤها، وكيفما كان الأمر فإننا لا نرى في الشرق العربي منذ أيام إبراهيم باشا المصري حتى أواخر القرن التاسع عشر حركة جديدة للانفصال عن السلطنة العثمانية والاستقلال بكيان عربي منظم سوى تلك الحركة المباركة التي انبعثت في وادي النيل السعيد؛ لأنه ما من شك في أنه لم يكن لقطر عربي من الأسباب المهددة لظهور فكرة قومية عربية ما كان لمصر في القرن التاسع عشر؛ فهي أسبق البلاد العربية إلى إنشاء وحدة إدارية ذاتية، وحكومة شرعية صحيحة؛ بل هي أول تربة بعثت فيها الروح العربية الاستقلالية القدسية، بل روح العزة والكرامة والمجد كما يستدل عليه من سياسة إبراهيم باشا التي كانت ترمي إلى فصل بعض الأقطار العربية عن جسم الدولة العثمانية واستقلاله بها، فقد صرح (للبارون بوال كونت) بقوله: (ما أنا بتركي، بل أنا ابن مصر. إن شمسها قد غيرت دمي فجعلتني عربياً قحاً. . .).
وقد سارت مصر بعد ذلك بخطى ثابتة في ذلك السبيل فتأسست فيها عدة جمعيات عربية، ومنظمات سياسية تعمل للعروبة وللوحدة الكبرى؛ منها (الجمعية القحطانية) التي تأسست عام ١٩٠٩، (والجامعة العربية) التي أنشئت سنة ١٩١٠، و (حزب اللامركزية) الذي تأسس في سنة ١٩١٢. وكذلك يجب إلا ننسى (جمعية العهد) التي أنشأها في الأستانة عزيز علي المصري يوم ٢٨ أكتوبر سنة ١٩١٣ فقد خدمت القضية العربية كثيراً، وسنتحدث مفصلاً عن فضل مصر على القضية العربية وعن أثرها في الوحدة العربية يوم تخصص (الرسالة) الكريمة الكلام عنها ولكل حادث حديث.
المنظمات العربية
وكما تأسست في القاهرة جمعيات عربية تعمل للعروبة كذلك أنشئ في كل عاصمة من عواصم العرب: في العراق، والشام، والحجاز، واليمن، وفي كل بلد من بلدانهم ناد يضم الصفوة المختارة من أبناء العروبة. وكذلك على أثر إعلان الدستور العثماني سنة ١٩٠٩ يوم تغير الحال غير الحال في البلاد العثمانية فأطلقت الألسنة من عقالها والأقلام من سجنها.
والواقع أنه لم يكن اغتباط العرب بالعهد الدستوري الجديد يقل عن اغتباط الترك؛ فقد ملئوا الجو هتافاً وصياحاً في بغداد والشام وغيرها، ونظم شعراؤهم القصائد، وحبر كتابهم