للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لا بأس، ولكن الفتاة لم تكن تظهر في صحن البيت إلا عند الأصيل، وهو الوقت الذي يعود فيه فتحي أفندي من المدرسة، وهو شقيقه الذي صار فيما بعد فتحي باشا زغلول، وكان الشيخ سعد يراعي فتحي أفندي، ويتعمد الظهور أمامه بصورة الناسك المتعبد، ليصرف عنه سوء التلفت إلى النساء، فقد كان يعرف أن التلاميذ (الأفندية) معرَّضون من هذه الناحية لأخطار تزلزل رواسي الجبال

النظر إلى المرأة حرام، فما حكم الشرع في سماع بُغام الملاح؟

وإنما عرضَ له هذا الخاطر الطريف، لأن مناغاة الفتاة لأترابها كانت تداعب أذنيه من وقت إلى وقت، وكان شديد العجب من أن تكون لفتيات الحواضر أنغام لم يسمع مثلها من بنات الريف، أنغام تصنع بلُبّه ما تصنع الراح بألباب الشاربين

ما حكم الشرع في هذه القضية؟ أيستفتى أشياخه بالأزهر الشريف؟ أيرجع إلى مطولات الفقه بالكتبخانة الخديوية؟

لا هذا ولا ذاك، وإنما اكتفى بوضع القطن في أذنيه عند سماع ذلك البُغام إلى أن يقضي الله في أمره ما هو قاض

كان يتمنى أن تتاح النظرة الأولى مرة ثانية، النظرة التي يرمي بها الفتى من غير عمد، وهي حلال على أرجح الأقوال، ولكن آبائنا قبل ستين سنة لم يكونوا يسمحون لفتاة بالخروج من البيت حين تصبح وهي في نضرة الغصن الفينان، فمن المستحيل أن يظفر الشيخ سعد بنظرة بريئة من تلك الفتاة عند الخروج لدروس الصباح، أو عند الرجوع لتناول الغداء

وهل كان الفتى الأزهري الذي يصلي ويصوم يستبيح التطلع إلى بنات الجيران؟ هيهات ثم هيهات، فقد حلف على المصحف ليصيرنَّ إلى آخر حياته وهو في طهارة القانت المنيب

ثم يضطرم قلب سعد أعنف الاضطرام، ويزداد بلاؤه بهواه المكتوم، من يوم إلى يوم، والفتاة لا تعرف أن بجوارها فتىً يدعو الله في أعقاب الصلوات أن يجعلها نصيبه من دنياه، أو يجعلها على فرض الحرمان نصيبه من الحُور العين

ويمضي فيقلب كتب النحو والفقه والتوحيد ليحفظ ما فيها من الأشعار الغزلية، ولا يكتفي بذلك، بل يمضي فينسخ ديوان أبن القارض، ليتخذ منه سميراً يؤنس وحشته حين تخفت

<<  <  ج:
ص:  >  >>