إن سعداً فلاّح وابن فلاّح، والفلاحون يخمدون نار الصبوة بالزواج، فما الذي يمنع من أن يسلك مسلك الفلاحين الشرفاء، فيطلب القرب من أهل تلك المليحة الحوراء؟
وهنا تثور مشكلة من أقبح المشكلات، مشكلة اجتماعية يعانيها الحي الأزهري في جميع الأزمان، وهي إصرار سكانه من كبار التجار على أن الأزهريين غرباء
لا جدال في أن الأزهريين هم شرايين الحياة في ذلك الحي، وبفضلهم تحيا متاجر وتقوم أسواق، ولكن هذا الفضل مجحود، لعله يحار في فهمها اللبيب. وقد كانت كلمة (مجاور) كلمة مدح، لأنها منقولة عن مجاورة الحرم النبويّ الظاهر، ثم صارت كلمة هجاء، بسبب التحامل على الأزهريين، فاعجبُ لكلمة ينقلها سوء المعاملة من مدلول إلى مدلول، بلا موجب معقول!
ومع أن الشيخ سعد زغلول كان يعرف أن حيّ الأزهر حيٌّ غادر ختّال، فقد قهره الهوى على أن يطلب يد ابنة الجوهري، ليسلم من وَقّد هواه، وليعرف كيف يُقبل على دروس الأزهر بعناية والتفات. وهل من المحال أن يفي ذلك الحيّ مرة في العُمر لمشرِّفيه من فتيان الريف؟
تشجّع الشيخ سعد فطلب يد ابنة الجوهري، فردّهُ الجوهري برفق، وهو يجهل ما ينتظر عمامة سعد من سيطرة أدبية وسياسية على أبناء هذه البلاد
ورجع سعدٌ حزين القلب، كاسف البال، وقد خاب أمله في هواه إلى آخر الزمان، ثم نظر فرأى أن الفرار من الحيّ الأزهري واجبٌ مفروض، لينجو من غمزات الذين شهدوا ردّهُ الأليم عن مناسك هواه. وأبناء الريف تؤذيهم ثرثرة السفهاء
لابُدّ من ترك الحيّ الأزهري، ولكن إلى أين؟ وماذا يصنع؟
إن أباه كان يرجو أن يصير من علماء الأزهر الشريف، ومن أئمة الدين الحنيف، فكيف يخلف ظن أبيه بلا تهيُّب ولا استحياء؟
ثم بدا له أن الكرامة الذاتية من مقاصد الكرامة الدينية، فخلع العمامة والجبة والقفطان، ولبس الحُلة الإفرنجية واحترف المحاماة، فأصبح وهو الأفوكاتو سعد أفندي زغلول، بشارع عابدين، وأمسى مكتبه سامراً يلتقي فيه كرام الرجال