الأيام؟ وأين هو من معقبات ذلك اليوم الذي تقدم قبل أربعة وأربعين عاماً في خلاء أم درمان؟
ذلك بركان غضب ولم يعرف كيف يغضب. ذلك بركان حليم جد حليم. ذلك بركان يعرف نار الأرض ويعرف نار الصاعقة ولا يعرف النار التي يجمعها الإنسان في أوعية صغار، كل وعاء منها كأنه جبل من نار!
أو هو قد عرفها فمرت به كما يمر كل شئ بالجماد، وبالإنسان الذي فيه قرابة من الجماد
وغمضة العين هنا هي أولى بالنظر من فتحها في سطعة هذا الضياء، فلن ترى إن فتحت عينك في الوادي إلا يومك الذي أنت فيه، وقد تغمضها فترى أعواماً وراء أعوام
وكأني رأيت الوادي يموج بالعمائم البيض والطرابيش الحمر والقبعات الصفر والوجوه التي فيها من اختلاف الألوان كل ما في العمائم والطرابيش والقبعات
وكأني رأيت النصر يدور بين المعسكرين، فلا يدنو حتى يبتعد ولا يبتعد حتى يدنو، ولا يزال بين إقبال وأدبار، وبين طلوع وأفول في سحابة نهار
لقد كان في الميدان جيشان من الماضي والحاضر، ولم يكن به جيشان من عصر واحد. فحكم الزمن بمصير المعركة قبل أن يلتقي الجيشان
كانت الحضارة والمدفع الرشاش والأسطول الصغير في أحد الجانبين
وكانت البداوة في الجانب الذي يناضله، وليس معها من سلاح غير الحراب أو راميات بالنار تشبه الحراب، وكل أولئك من عمل الحضارة نفسها في أوان فات
وقيل إن السيف الذي شهره المهدي كان سيفاً لبعض الفرسان التيوثون في الحروب الصليبية عليه طابع شارل الخامس ثم انتقل إلى سلاطين دارفور، وهو تاريخ فيه من الحق أكثر مما فيه من الأساطير
فهذا السيف كان رمز القوة التي أعتز بها الخليفة عبد الله، فلم يزد عليه من العصر الحديث ما هو أقوى منه بكثير، إلى جانب المدفع الرشاش
لقد حارب بعد زمانه بسبعمائة عام، فأحرى ألا يصيب في غده ما لم يصيب في أمسه، وهو إذ ذاك أمضى سلاح
وأما الشجاعة فلا شجاعة فوقها، يتمناها لجيشه كل قائد في كل قتال