يرى زوجته تحدب عليه، وتحتمل مشقة تمريضه، ولأنه رأى صبياً يافعاً يقود الطبيب إلى المنزل، ويجري إلى الصيدلية محزوناً، ويرى طفلاً مبغوم الكلام يخطر لا هياً أمام سرير أبيه المريض، فتأنس به نفس الأب وتُشْرق
هذه البسمات التي يراها في ثغور الأطفال لا بد أنها تنير لآبائهم سبل الحياة وتكشف عنهم غواشي اليأس! ليت له مثلها في دنياه التي لا شية فيها من النور!
ويرى أمين الآباء أشقياء مُملقين من كثرة الإنفاق على بنيهم، فيتمنى من كل قلبه لو شقي شقاءهم وأملق إملاقهم. إنه يؤمن بأن الآباء هم كل السعادة وهم كل الغنى، وأن في كلمة (بابا) وحدها كنوزاً يهون في سبيلها كل عزيز!
ويسائل نفسه أيضاً: هذا الكدَّ الذي أبذل، ما جناه؟ فينثني مسلوب اللَّبَّ حين تجيبه: لا شيء! وغداً تموت، ولكن لا كميتة الناس، فهم يَحْيَوْن في بنيهم، وأنت ستموت كأقسى وأوفى ما تعني اللّغة بلفظة الموت
بمن يتأسّى في أشجانه؟ الظاهر والبؤس فيما حوله هم كتبة الدرجة الثامنة والخارجون عن الهيئة وخدم المطعم ونُدُل القهوة، ولكنه أشقى من هؤلاء جميعاً. إنهم سَيحْيَوْن بعد مماتهم. . . وإن الفرد منهم ليجد آخر اليوم قسيمة لحياته، يطرح لديها أثقاله. فأما هو - فباويح له - محرومٌ يبثَّ شكاته جدراناً لا تسمع، وينشد الحنان والألفة هنا وهناك فلا يجد غير قسوة الحياة وظمأ الروح وشقوة الضمير
ما أشد عوزه إلى يد رقيقة يمسها وتمسه!! في صدر (أمين) فيوض من الحنان تريد الانسياب فليت له من يتلقاها! ألا قلوب تنبض مع قلبه نبضات واحدة بشعور واحد!؟
ويعالج (أمين) مع ذلك كله البسمات، ويتكلف جاهداً المظهر الشاب، ويحاول أن يدفع عنه الوهن، ولكن البسمات أماتها الزمان، والمظهر الشاب غطى عليه الجهد الثقيل والعمر اليأَس؛ والوهنَ. . . أحتلَّ بَدَنَ أمين في غير اكتراث!
حدثني عن (أمين) معارفه القدماء، فجلوا لي كثيراً من ماضيه. وكنت وإياه أخيراً منتدبين في الإسكندرية، وكنا في فندق واحد، فخلا إلى ذات مساء، وأفضي إلى بكل قصته. كان يتحدث بلهجة مذنب يريد أن يثأر لضميره من نفسه. . . وكان كطفل بيّن السذاجة لا يعمى على سامعه شيئاً من وصف مشاعره وسرائره؛ وكان يسرق الدمع حياءً؛ وكانت له زفرات