غير الواقدي. وليست بنا حاجة لتنفيذ هذه المفاوضة إلى القول بأن قصة العرب المنتصرة موضوعة وإننا لم نجدها في غير كتاب الواقدي
فخلاصة القسم الأول من البحث انه لم يصح عندنا إلا وقوع مفاوضتين: الأولى عند بلبيس بين عمرو وجماعة عليها أحد الأساقفة، ولم يرد إلينا نص ما دار في هذه المفاوضة. والثانية في جزيرة الروضة أثناء حصار حصن بابليون بين المقوقس وعبادة ابن الصامت، وقد ورد إلينا ما يقول مؤرخو العرب إنه دار في هذه المفاوضة، ولكننا لا نظن أن الذي نقله إلينا هؤلاء هو ما دار في هذه المفاوضة بالضبط، وإن كنا لا نشك في أنه لا يختلف عنه من حيث الروح المسيطرة على الطرفين المتفاوضين
فلنشرع إذن في القسم الثاني من البحث في تلمس هذه الروح في ما نقله إلينا مؤرخو العرب وتنسمها منه
القسم الثاني
كان عبادة بن الصامت وأصحابه تسيطر عليهم تلك الروح التي كانت تسيطر على العرب جميعهم في ذلك الوقت: الانصراف عن الدنيا وأعراضها وملذاتها، تلك الدنيا التي طلقوها ونبذوها وخلفوها ظهرياً؛ ثم السعي إلى لقاء الله تعالى والاستشهاد في سبيله والظفر بجنته ونعيم آخرته
وكان عبادة بن الصامت وأصحابه لا يجدون ما يصلح أساساً للمفاوضة بينهم وبين المقوقس وأصحابه غير هذه الثلاث الخصال: إما الإسلام وإما الجزية وإما القتال. ذلك لأنها الأساس الوحيد الذي يرضى به المسلم المعمور القلب بالإيمان الخالص الضمير من أعراض الدنيا الموطن النفس على الاستشهاد
أما المقوقس فكان في أول الأمر تسيطر عليه نزعتان: الأولى هي خوف العرب وخشيتهم. والثانية هي الحرص على سلطان هرقل من أن يزول عن مصر. ولذلك وجدناه يصطنع الحيلة لصرف هؤلاء العرب عن البلاد؛ فيأخذ في تخويف عبادة وصحبه من جموع الروم التي تتجمع للقائهم وتوشك أن تنقض عليهم فلا يستطيعون لها ردا، ويأخذ في إظهار شفقته على هؤلاء العرب الذين يقاسون شظف العيش وضيق الحياة، ثم يأخذ أخيراً يقول: (ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة