من رأي بعض القدماء أن الشعر لا ينقده غير الشعراء، وحجة ذلك البعض أن الشاعر هو الذي يدرك الدقائق الشعرية، ويعرف ما يباح وما لا يباح من التأنق والابتذال
والظاهر أن ابن الرومي هو أول شاعر نص على أن الجودة المطلقة لا تشترط في كل بيت، ولكن هذه النظرية لم تتضح في ذهن ابن الرومي كل الاتضاح، بدليل أنه ساقها مساق الاعتذار، حين قرر أنه ليس أعظم من الله، والله يخلق الشجرة وفي أغصانها القوي والضعيف
ولو أن هذه النظرية كانت اتضحت في ذهن ابن الرومي لترك جانب الاعتذار واعتصم بجانب الاحتجاج. وتفسير ذلك أن جمال الشجرة مجمل لا مفصل، فهي جميلة في مرأى العين، بغض النظر عما فيها من أغصان ضعاف، ولعل جمالها لم يكمل إلا بفضل تلك الأغصان الضعاف
وأوضح هذه النظرية بعض التوضيح فأقول: في كل وجه جميل ملامح تكميلية تؤكد ما فيه من جمال، ولكنها منفردة لا توصف بالجمال
وفي الزهرة الجميلة أوراق يعوزها الحسن، ولكن جمال الزهرة يحتاج إليها كل الاحتياج
والأرض الجيدة لا تستوي أبداً، وعدم استواء الأرض الجيدة هو الذي يتيح لها فرصة الانتفاع بالشمس والهواء
وما يقال في المحسوسات يقال في المعقولات، فالنبوغ الفائق هو في ذاته لون من الانحراف، لأنه صورة من طغيان بعض المواهب على بعض، ولو استقامت المواهب الإنسانية استقامة مطلقة في جميع الناس لكان من المستحيل أن يتفوق الإنسان على الحيوان
تفوق جارحة على جارحة أو ملكة على ملكة، وهو أساس النبوغ والعبقرية، ولكن وجود الجارحة الضعيفة أو الملكة الضعيفة شرط أساسي في تكوين ما يقوى من الجوارح والملكات، كما أن الغصن الضعيف سناد للغصن القوي في تكوين الشجرة الفرعاء
والقصيدة كالشجرة، يستبد فيها البيت القوي بالبيت الضعيف، وعلى أساس القوة والضعف ينهض بناء الوجود