(تأمل قليلا في هذا الكائن البديع، القرمزي اللون! انه لا يعيش إلا في الشرايين، لا يحلو له أن يتناول إلا الدم الطاهرالزكي: يستقيه سائغا شهيا حين يقذفه القلب إلى كل شريان. . وهذه صورة رجل قد حلت بجسده هذه الكائنات! أن وجهه الشاحب قد علته صفرة الموت. وعينيه الغائرتين تجدان كفايتهما من الدم المغذي. وعلى عظامه الناتئة جلد رقيق، يوشك أن يكون شفافا. . . أن حياة مثل هذا لن تطول. فان هذا الضرب من الطفيليات من أقتلها وأفتكها بمن يعيش في جسده.
(انتقل بنا الآن إلى هذا الكائن الأبيض المنتفخ! إن خطبه ايسر من خطب الأول. ودأبه أن يعيش وسط الدسم والشحم.
فهو لا يسكن من الجسم إلا حيث الدهن متراكم متكدس. فإذا رأيت من بني آدم من أضخمته النعمة، وأشحمه الغنى، فأن هذا الشقي لن يلبث طويلا حتى تتألب عليه هذه الكائنات الشرهة، ترتع في نعمته، وتمرح في شحمه ودهنه، وما تزال مكبة عليه تمتص منه وتلتهم، حتى تذره نحيلا هزيلا. قد وهى عظمه، ورق جسمه حتى لم تبق منه إلا بقية ضئيلة، لا تلبث أن تذهب، فيهلك الجسم وتهلك معه تلك الطفيليات.
(وأظنك تشاطرني الرأي أن ليس بمستغرب أن تتجمع الطفيليات على مثل هذا المخلوق السمين، حيث المرعى الخصيب، والخير الوفير، والنعمة السابغة. . .
ولكن ما بال هذه الطائفة - التي تراها عن يمينك - قد تألبت على غير ذي دسم، وتجمعت على غير ذي نعمة، ولا يحلو لها أن تمتص الحياة والرخاء إلا من كل بائس شقى، قد عضه الفقر من جانب. والجوع من جانب، ممن يقضي حياته في كد وكدح، من اجل اليسير من الزاد، والزهيد من القوت، لا يكاد يصل إليه إلا باهراق عرق الجبين، وبذل الجهد الجهيد، وإيراد الروح موارد العذاب. ثم يغدو المسكين وإذا قوته ودمه يذهبان غذاء سائغا شهيا لهذه الطوائف النهمة من الديدان الملتوية.
(ومن عجب إن ليس في الطفيليات كلها ما هو اشد نهما واكثر شراهة من هذه الكائنات، التي تعيش وسط الفقر المدقع، فتراها غنية وسط الفاقة، سعيدة وسط الشقاء، مدلة بنفسها عزا وكبرا برغم ما يحيط بها من الذل والضعة، وهي إلى هذا كله قصيرة النظر، لا تكاد