أن ترى شيئا، لأنها لو استطاعت أن تبصر لعلمت أن ليس في عيشها ذاك ما يبعث الكبر والغرور، ولأدركت حقارة شأنها بين الكائنات.
والآن انتقل بك إلى هذه المجموعة الفريدة؛ إنها ستبدو لك لأول نظرة كأنها ديدان لما بها من الالتواء والانحناء؛ لكنها في الحق ليست بديدان، بل حشرات طفيلية جميلة الصورة، حسنة الهندام؛ أما هذا الالتواء والانحناء، فراجع إلى طبع غريب مغروس في نفوسها، ذلك إنها مولعة أبدا بالركوع حينا والسجود حينا: مغرمة بتمريغ الجبين في مواطئ النعال. فهي تبدي للجسم الذي تمتص خيره وبره عبودية وخضوعا. وتتملقه تملقا بديعا. وما تنفك تهتف باسمه. وتسبح بحمده: ولا يحلو لها الزاد الذي تمتصه وتتغذى منه، ما لم يصحبه كل هذا الركوع والسجود، والتملق والخنوع. . . . . وهذه الحشرات لا تعيش إلا في الجسم القوي ذي البأس الشديد، والعزة والجبروت. ولقد يحلو لهذا الجسم أن يؤدي هذه الحشرات، وان تمتص من خيره ومن رحيقه، لأنه يعجبه منها هذا الخضوع الظريف، وهذا التملق الساحر. وهذا الركوع الدائم والسجود. ولا يرى على نفسه بعد ذلك بأسا في أن تأكل هذه الحشرات من مخه ومن دمه، ومن لحمه ومن عظمه. لأنه قوي مدل بقوته، بئيس مفاخر بأسه، يظن أن كنوز قوته لن تنفذ مهما كبر ذلك الجيش الجرار من الحشرات. فتراه يستكثر منها ويستزيد ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
(ومن عجب أن هذه الحشرات قد تحل بها حشرات أخرى أحقر منها، لكي تعبدها وتتزلف إليها، وتمتص خيرها؛ وهذه أيضا على حقارتها تنمو حولها طائفة أخرى أحقر منها، وهلم جرا، ولن تستطيع أن ترى هذا كله بالعين العادية، بل لابد لك من التحديق في المجهر: انظر هاهنا! وأمعن التحديق حتى تعتاد عينك رؤية هذا العالم الطفيلي المدهش! أرأيت كيف تتابعت هذه الكائنات تتابعا مطرداً: من الكائن الأكبر إلى الأصغر فالأصغر حتى تبلغ إلى الحقير التافه الذي لا تكاد تراه حتى بالمجهر!
(وبرغم ما تراه في هذا الجيش العرمرم من مظاهر القوة والنشاط، والحركة الدائمة، فان هذا مظهر خداع. ولا بد أن يدركه الفناء في لمحة الطرف. ولا بد للمسكين من يوم تدول فيه دولته وتذهب ريحه، وينظر فإذا قوته قد فنيت وبأسه قد زالوإذا هو صريع وسط تلك الجيوش الجرارة من الطفيليات التي أفنته وأفناها.)