رنشتيد قد اخترق حصون المنطقة الصناعية عند (كراكاو)، والتف هاجماً من الجنوب الغربي. يتململ رينهارت ويرغي ويزيد، وينقض على وارسو يدكها دكا، ويطلق طائراته عليها: بالقنابل تقذفها وبالأرض تسويها، ثم تعود دباباته إليها تقتحمها، وتنساب في أزقتها، وتنعطف في منحنياتها وتضرب يميناً وشمالا. ولكن قليلاً قليلاً يهبط عليها نفس الشعور القلق ويكتنفها نفس الإحساس المبهم اللذان حلا بها في الهجمات السابقة، فتشلها الحيرة ويخنقها الارتباك؛ عدوها لا يزال مراوغاً غير مرئي. أين هو وأين يختفي؟. . . تجحظ عيون الألمان من فتحات الفولاذ الضيقة باحثة منقبة، ولكنها لا ترى إلا طريقاً خلواً طويلاً، منثنياً متعرجاً بين ديار وإن تكن قد خربت، ومنازل وإن تكن أجنابها قد صدعت، إلا إنها، هذه وتلك، لا تزال تؤوي مئات الجنود وآلاف السكان - هؤلاء الزاحفون داخل الفولاذ، مجال الرؤية أمامهم محدود، في حين أنهم ظاهرون بكل جلاء، واضحون وضوح الشمس والنهار - ينصب المدفع خلف أحد الأبواب، وبمجرد ظهور الدبابة أول الشارع يعد المدفع ويجهز، بينما لا تراه هذه حتى تكون بحذائه، وفي لمح البصر تصيبها الصدمة، فتمزق أجنابها وتهشم أفرادها، وتقذف أشلاءهم متشابكة مع فولاذها المتناثرة، متعلقة بأجزائها المتطايرة هنا وهناك. وهذه أخرى أوقفتها المتاريس لحظة فتساقطت عليها فجأة زجاجات البترول المندلعة، تشعل فيها النار وتشوى رجالها شياً، فتتعالى صيحاتهم المروعة، متجاوبة في آذان زملائهم المتقدمين خلفهم. . . فبالله عليك ماذا تنتظر من هؤلاء وقد رأوا عدوهم الخفي لا يظهر إلا ليضرب الضربة الصائبة، وإذا قضوا عليه آخر الأمر، فهناك غيره مئات بل آلاف، الموت لهم بالمرصاد، جاثم متربص في كل منعطف وفي كل ركن، وفي كل نافذة وفي كل قبو
ولم يكتو أحد بهذه الحوادث مثلما اكتوت به الجيوش الألمانية، وصممت ألا تقع في مثلها ثانية، وساعدها على ذلك غفلة العدو عن التقاط خبرة الغير والانتفاع بدروسها، ولذا رأينا الألمان يقذفون المدن الهولندية قذفاً ويمحقونها محقاً، واختصت روتردام بأكبر نصيب، ثم أسقطوا عليها الآلاف من جنود المظلات، يئدون المقاومة في مهدها، ويستحوذون أول الأمر بثمن بخس ومجهود ضئيل على تلك المراكز التي ربما تحولت آخر الأمر - إن هم تركوها إلى أوكار للدفاع - تستنزف من المجهود ما ضخم، بل ما استعصى: من توتر في