أحب النضج، وأحب النضج لأني أصبحت أفضل حكم العقل على تحكم الغرائز، وأوثر الروحانيات على الماديات. والشباب في نظري حرب قائمة، والكهولة سلام مقيم. قد تقول ساخراً إن هذا السلام ركود، والركود من مظاهر الموت. وإني لا أقر هذا القول ولا أوافق عليه. فأنا لا أقول بالسلام العقيم ولا بالاستسلام وانعدام النشاط؛ إنما أقصد سلاماً كسلام الدولة القوية الغنية، لا تحب الحرب ولا تسرع إليها مختارة، بل تعمل في شتى مرافق الحياة بنشاط أي نشاط. أقصد السلام الذي يشعر به المجاهد الذي ناضل طويلا، وأدرك ما أراد، ثم هدأ واستقر ليستريح وينعم بمزايا السلام. هو سلام لا يعرفه الشاب بحال من الأحوال، لأن الشباب يسبح في غمرات متلاحقات. فهو يطمح ويطمع. وينهك نفسه ليكون في الحياة شيئاً مذكوراً، وليحصل على المال والمجد والشهرة. يطالع ويدرس في نهم شديد ليعرف كل شيء. ويظل ريشة في مهب العواطف العواصف: من حب وكره، ورضا وسخط، وأمل وألم. فيظل على الدوام مشرد القلب في فرح يمازجه اضطراب، أو في حزن يلازمه اكتئاب، إن أخطأ أو أصاب. ضع هذا كله في كفة الخسائر للشباب، وانظر ما يقابلها في كفة المكاسب للكهولة. ترى الكهل ينعم بمزية التحرر والخلاص: التحرر من قيود كانت في الشباب ثقيلة، والخلاص من جهود كانت مضنية. لأنه أدرك ما أراد، ويئس في الغالب من إدراك البعض الآخر. واليأس إحدى الراحتين. . .
لهذا أراني أشد ما أكون اغتباطاً بالكهولة. لأنها خلصتني من مطالب كانت على نفسي ثقيلة الوطأة شديدة الإلحاح. ولأنها منحتني القدرة على خدمة بلادي على وجه معين ظاهر الأثر معروف الدائرة. كما منحتني القدرة على إسعاد من حولي على وجه أدق وأشمل. وفي هذا كله أنس للروح وغبطة للنفس، ليس إلى وصفهما من سبيل.
وأخيراً ما هذا الهدوء النفسي الفريد الذي يملأ صدري في الكهولة؟ أهو وليد الثقة بالنفس بعد طول التجارب على مر الأعوام؟ قد تحدث الآن أمور مروعة فأتألم لها من غير هلع أو جزع. وأراني أتحمل الألم في جلد وصبر وإيمان. لماذا؟ لست أدري. وإنما أدري أن هذا سلاح للروح معدوم النظير، لا يعرفه الشباب الذي تراه من هول كل صدمة يطير.
هو هدوء أشبه بالهدوء الذي يلي العاصفة: هدوء يطلق النفس من عقالها، ويفتح أمام العقل آفاقاً لم يكن يراها. ويا له من هدوء مريح حين أخلو إلى نفسي في مقعدي الوثير، أطالع ما