وحملني النزق على تجربة هذه الوصية، فأخبرت حافظا أني رأين شوقي كثير التنقل في الشوارع، وفي حال يغلب عليه الانفعال، فصرخ حافظ: في أي غرض يعالج الشعر هذا المخبول؟ إنه يكره أن يقترن اسمي باسمه، مع أن الناس ظلوا يقولون في أكثر من عشرين سنة: شوقي وحافظ كما يقولون: بيض وسميط
بين الظلم والعدل
كانت الأقدار سمحت بأن تنعقد بيني وبين شوقي مودة دامت نحو سنتين. وفي تلك الأيام عرفت من أحوال شوقي أشياء وأشياء. ومن المؤكد إنه من أعاظم الرجال الذين عرفتهم في حياتي، فقد كانت أستاذيته في نقد المجتمع مضرب الأمثال، وكان روحه من ألطف الأرواح، وفي لحظة من لحظات الحوار حول مقاصد الشعراء سألته عن قصيدة حافظ في مجاريته، وهو منفي بالأندلس، فأجاب وقد تربد وجهه بالغيظ، أنا لا أروي غير شعري
فقلت: ومن الوفاء للأدب أن تروي شعر من يناجيك وأنت غريب
وفي اليوم التالي لقيت حافظا فسألته برفق: أتحفظ شيئا من شعر شوقي؟ فأجاب: لقد قتلني شوقي حين قال في اللورد كارنارفون:
أفضى إلى ختم الزمان ففضهُ ... وحبا إلى التاريخ في محرابهِ
وطوى القرون القهقرى حتى أني ... فرعونَ بين طعامهِ وشرابه
أحقاد العبقريين
ومع هذا فأحقاد العبقريين كأحقاد الأطفال تذوب بعد ليال. ففي سنة ١٩٢٧ أقيمت حفلة عربية لتكريم شوقي، فأنشد حافظ قصيداً جاء فيه:
أميرَ القوافي قد أتيت مبايعاً ... وهذى وفود الشرق قد بايعت معي
فدعاه شوقي وقبّل جبينه والدمع في عينيه. . . ثم شاء القدر أن يموت حافظ قبل شوقي بأسابيع، فقال شوقي يبكيه:
قد كنت أؤثر أن تقول رثائي ... يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقتَ وكل طول سلامة ... قدرٌ، وكل منية بقضاء
ووددت لو أني فداك من الردى ... والكاذبون المرجفون فدائي