تنطلق على الألسنة ولا في الصحف كما تنطق في البلدان التي تملك القول والنشر ولا تبتلي فيهما بالحجر الشديد
وقلما خرج من برلين - أو من ألمانيا على العموم - صحفي أو ناشر أو مذيع من الذين أقاموا فيها أيام الحرب إلا جاء معه بجعبة حافلة بالنوادر والفكاهات التي يتهامس بها أبناء برلين وميونيخ وغيرهما من الحواضر الكبرى
أحد هؤلاء وليام شيرر الذي كان يذيع من ألمانيا لمحطات الإذاعة الأمريكية المعروفة باسم (اتحاد كولومبيا) وقضى في أواسط أوربا سبع سنوات ثم غادرها بعد أن ضاقت به الحال وتعذر عليه أن يبلغ سامعيه شيئاً يستحق عناء التبليغ
ضاقت به أسباب الإذاعة لأنهم كانوا يحذفون معظم كلامه أو يحذفون كلامه كله في بعض الأيام، وكانوا إذا حذفوا كلامه كله خشوا أن يعزو السامعون ذلك إلى شدة الرقابة على الأنباء فاعتذورا عنه بغير علمه قائلين: إنه لا يذيع الليلة لأنه تأخر عن الموعد! ولم يقولوا إنه لا يذيع لأن الكلام الذي أعده للإذاعة قد حذف كله، أو لم يبق منه ما يستغرق الوقت المقدور لأنبائه
وحاول في بداية الأمر أن يعالج ذلك بما في وسعه فأقلع عن الصراحة ما استطاع وتعرَّض منها بالتلميحات والإشارات وتحميل اللهجة شيئاً من معاني السخر أو التوكيد أو الإيحاء. فما راعه ذات يوم إلا رقيب يلازمه ويشير على بعض الكلمات بالمداد الأحمر، ويقيس الفواصل بين جملة وجملة في أثناء الإلقاء حذراً من أن يكون المتكلم قد أراد بطول السكوت أن يلفت السامعين إلى أطواء كلامه السابق أو المقبل. فلما استحال عليه أن يقول كل ما يريد، وأن يقول بعض ما يريد، وأن يقول بالإشارة والسكوت ما يستحق أن يقال، لم يجد بداً من الرحيل، فرحل وفي ذاكرته وأوراقه جعبة من الخواطر والحواشي والتعقيبات تنبئ العالم بأضعاف ما كان ينبئهم به في أحاديثه ورسائله، وضمنها جميعاً كتاباً من الكتب النادرة في تاريخ الحرب الحاضرة، فما انقضى على صدوره عام واحد حتى كان قد أعيد طبعه ثماني مرات
في هذا الكتاب طرَف من فكاهات أهل برلين وفكاهات الموقف هنالك على الإجمال، تدل على أن الإنسان في إبان الخطر يحتاج إلى منفس الفكاهة - إلى الضحك - حاجة لا يبالي