الكلية) لا تبقى على شيء ولا تذر؛ هي حرب سلاحها القاذفات تحمل أسباب الهلاك والفناء على دفعات ثلاث، دفعات متعاقبة متلاحقة؛ السابقة منها تمهد السبيل للاحقة، واللاحقة منها تباري السابقة في افتنان وسائل الدمار، أولاها قذائفها ثقيلة ضخمة، والأخيرة سلاحها أرق من النسيم، وأفتك من ألف قنبلة تدافعت نحو الهدف. هذه هي جراثيم أمراض وبائية حشرت في أنابيب صغيرة، ولكنها سلاح يعجز عن إلحاق الضرر الشامل إلا إذا سبقتها حالة عم فيها الفزع، واختلط خلالها الحابل بالنابل، وانقلب أثناءها العالي على السافل؛ حالة شُلت فيها وسائل الوقاية، وانعدمت أثناءها أسباب العلاج. حالة تخلقها القاذفات بإشعال الحرائق الكبيرة تستعر وتمتد حتى لا يعود إنسان يفكر في رفيق، ولا أخ في شقيق، ولا أم في وليد. ولكن هل يسعنا إشعال تلك الحرائق ما دام هناك على الأرض أفراد لها مترقبون. وبكامل الوسائل مستعدون؟ لا مناص إذن من إقصائهم عن مراكزهم أو تحويل رقابتهم بقنابل قاصفة شديدة الانفجار، تهز أعصابهم إن لم تنثر أشلاءهم.
تلك هي المراحل الثلاث، وهي كما ترى مرتبطة ببعضها، متسلسلة الترتيب، ممهدة لأخيرتها التي هي أصدقها إصابة، وأمضاها نتيجة
طبق الألمان نظريات (دوهيه) على عمليات بولندا فنجحت نجاحاً لا بأس به: فَقَدَ البولنديون سلاحهم الجوي إثر هجوم خاطف شنته قاذفات الألمان على المطارات، ووقفت جيوشهم مشلولة حيرى لا تدري عما حولها شيئاً. كيف لا؟ وقد فقدت طائراتها وأصبحت كالساري في ظلام دامس، يتحسس الطريق فيتعثر، ويتنسم الاتجاه فيتخبط! أما المصانع فلم تدمر تدميراً تاماً كما أمل الألمان؛ وأمام المدن عجز برنامج (دوهيه) عن شق طريقه إلى سُبُل التنفيذ والتحقيق. ولا داعي لتذكير القارئ أن ألمانيا أحجمت عن استعمال الجراثيم الوبائية حرصاً على موقفها إزاء الدول، وخوفاً من استفزاز الرأي العام.
وفي صيف ١٩٤٠ حاول الألمان معاودة تطبيق تلك النظريات على مطارات بريطانيا ففشلوا فشلاً تاماً، إذ هبت المقاتلات في وجه القاذفات المغيرة تردها وتقصيها، حتى فاه تشر شل بكلمته المشهورة في الإشارة بأعمال رجال الطيران البريطاني:(لم يسبق قط في تاريخ الحروب أن علقت فئة قليلة كهذه على أعناق شعب مثلنا، جموعه زاخرة بالأفراد، مائجة بالأعداد، دّيْناً كهذا، قيمته تفوق كل قيمة)؛ وهكذا أصبح القسم الأول نفسه من