فهل أفلحت الجامعة في إيقاظ الروح القومي لتشعر المحتلين بأن مصر شبَّتْ عن الطوق، وانتهت من أبجديات الكتاتيب؟ هو ذلك، فقد أقبلت الأمة على تأييد الجامعة إقبالاً منقطع النظير، إقبالاً يشهد بأن الجسم الوهين عروقاً نابضات، وأن مصر علمَّت فلاسفة الإغريق والرومان في العصر القديم ستكون موئلاً علميّاً لليونان والطليان في العصر الحديث
تلك الرسالة الأولى، فما الرسالة الثانية؟
كانت الرسالة الثانية أن تجد الجامعة طلاباً يسعون لظفر بإجازات علمية، لا تعترف بها الحكومة المصرية، طلاباً لا أمل لهم في الوظائف والمناصب، ولا حظ لهم غير التشرف بخدمة الدراسات العالية، في زمن كان فيه تراب الوظيفة أثمن من التبر المسبوك، وأروع من خيوط الضياء
وذلك عهدٌ عرفتُه بدمي وروحي، وعرفه معي زملاء من أبناء الجامعة في عهدها الأول. . . كنا يتامى، وكان اليُتم المضطهد بعض ما ورثنا عن الأنبياء
لم يكن للجامعة ماضٍ تستند إليه، فقد سبقتها المدارس العالية بعشرات السنين، وسبقها الأزهر بعشرات القرون، ولم يكن لنا إخوان في أي ديوان، فقد عشنا حيناً غرباء، وكان من حق أي مخلوق أن يسخر منا كيف شاء، والحر في وطنه غريب
لقد حملنا أعباءنا الثقيلة ولا معين، ورحبنا بالمكاره السود، لنقنع الأمة بأن عدننا رسالة لم يحملها أحد من قبل، وهي رفع راية الفكر الصداق والقلم البليغ
في ذلك العهد كنا نسمع أن علوي باشا يطوف على الوزارات عساه يجد أمكنه للعائدين الفائزين من بعثات الجامعة المصرية، وكنا نسمع أنه يجاب بأن (الحكومة ستنظر في الأمر) وهي عبارة ديوانية معناها أن الحكومة السنية لا تعرف من أعضاء البعثات إلا من تنفق عليهم من مالها الخاص، كأن الجامعة كفرت حين عاونت الحكومة على تثقيف بعض أبناء الجيل الجديد!!
وحكومة مصر كما تعرفون تجهل أقدار الذين يعفونها من النفقات عند الرغبة في التزود من الجامعات الأوربية والأمريكية لأغراض مردُّها حب السيطرة على العلوم والعلماء
فهل جزعنا فيئسنا؟
هيهات، ثم هيهات، فقد رحبنا بالجهاد في مناصب الجامعة بعنفوان أقوى من عنفوان