وقد طال تباكي الأدباء على الفلاحين، فهل في أدبائنا من يفهم أن الفلاحين في غنى عن تباكيهم المصطنع؟
قالوا أن الفلاح يبيت مع الجاموسة في حظيرة واحدة، وفاتهم أن المبيت مع الجاموس أطهر وأشرف من المبيت في غرفه مفروشة بأحد المنازل التي يعرفها المتأنقون من أدباء هذا الجيل الظريف!!
إن حياة الفلاح في صحبة مواشيه حياة تفيض بالروح والوجدان، فهو ينظر الى مواشيه برفق يعادل نظره إلى أبنائه الأعزاء، وهو يسهر حول حظيرة ثوره حين يمرض، كما يسهر حول فراش أبنه حين يمرض، وهو لا يسمح بذبح ماشية مريضة إلا طاعة لعقيدة توحي إليه أن من الإساءة للحيوان الأليف أن يموت موت (الفطيس) وكذلك تكون المسارعة الى ذبح الحيوان المريض باباً من التكريم، لا ضرباً من الاستغلال
على هذا النحو من الفهم كانت الحياة في الريف، فقد رأيت ناساً يسهرون ومعهم مصباح حول ثور مريض، كأنهم يتوهمون أن المصباح يؤنسه بعض الإيناس. وتلك صورة تشهد بصدق الفطرة المصرية في إدراك منافع الطير والحيوان
والذي يفهم الريف حق الفهم يدرك السبب في عبادة المصريين القدماء للأنعام، وهذه العبادة فهمت على غير وجهها الصحيح. فما كان الغرض أن يكون البقر آلهة يعبدون من دون الله؛ وأنما كان الغرض أن يكون تقديس البقر نوعاً من صيانة النعمة الربانية، على نحو ما يصنع الفلاح المسلم حين يترك فتات الخبز في الطريق، لأنه يرى من كفر النعمة أن تداس بقايا الخبز بالأقدام
إن البقرة والثور من العناصر الأصلية في الثروة المصرية، ومن أجل هذا المعنى كانت هاتور وكان أبيس من المعبودات في زمن الفراعين. وعن مصر أخذت عبادة البقر في الأقطار الهندية، وتلك وثنية تستحق العطف، إذا فكرنا في سببها الصحيح
وقد حدثني سعادة الأستاذ طه الراوي أن الحجاج كان يحرِّم ذبح البقر، وأنشد أبياتاً قالها العراقيون في السخرية من هذا التحريم، فعمن أخذ الحجاج ذلك البدع الظريف؟
هل أخذه عن مصر؟ هل أخذه عن الهند؟
لا هذا ولا ذاك، وإنما أستوحي المنافع الحقيقية للبقر في بناء العمران