كثيراً ما يبعث إلى المخيلة باقي الاجزاء ويبرز الصورة جليلة كاملة، ويترك البحر الطويل مثل هذا الأثر أيضاً قول البارودي الذي اشار إليه الدكتور صبري في كتابه عن الشاعر:
- ونبهنا وقع الندى في خميلة -
فإذا قرئ هذا الشطر بتأن وجدنا الوزن يمثل تساقط قطرات الندى متتابعة، أما الحركة السريعة فيمثلها البحر الكامل، ومن ذلك قول المتنبي:
عقدت سنابكها عليها عثيراً ... لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا
ففي البيت الثاني نرى مبالغة أخرى من مبالغات المتنبي، وهي لا تكاد تؤدي معنى، ولكن البحر الذي صيغت فيه القصيدة يؤدي خبب الجياد خير أداء، حتى ليكاد يريك توثب الفرسان فوق ظهورها، ولو حاول الشاعر وصف الخبب في البحر الطويل لما استقامت صورته.
ولتكرار الألفاظ أو التعبيرات أحيانا اثر بليغ في ابراز الصور وبعث الاخيلة. ففي قول ابن هانئ الاندلسي:
وفوارس لا الهضب يوم مغارها ... هضب ولا الوعر الحزون حزون
يوحى تكرار كلمتي هضب وحزون إلى المخيلة تتابع الهضاب والربى أثناء عدو الفرس، فكأنه يعرض أمام العين شريطا سينمائيا متحركا، أضف إلى ذلك صوغ البيت في البحر الكامل واختيار الكلمات الفخمة، وفي قول الأستاذ المازني:
لغط اليم إذا طما ... والتقت فيه هضاب بهضاب
ترى صورة رائعة لجيشان اليم، ولا يرجع هذا إلى معنى البيت وحده، ولكن إلى وزنه وألفاظه كذاك: فبحر الرمل يمثل الحركة المتضاربة أدق تمثيل. وتكرار كلمتي اليم وهضاب يوحي إلى المخيلة تتابع اللجج، وتكرار حرف الهاء ثلاث مرات في الشطر الثاني يزيد الركة تصويراً وبروزاً.
كان ذلك في الغالب كما ذكرت محض اتفاق أو الهام، ولم يقم في العربية فرد أو مدرسة تتوفر على هذا الضرب من النظم والتصوير وإنما حين اتجه نظر الشعراء إلى اللفظ صادف ذلك عصر انحلال الأدب فلم يسخروا اللفظ لابراز المعنى، بل صرفوا كل همهم