للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أدرت عيني. . . وقعتا على وجه أبي الهول. . . فرأيته يضحك عليَّ. . . ساخراً بي وبأحلامي. . . والذي أذهلني أنني رأيت شفتيه الغليظتين تنبسان. . . فأرهفت أذني. . . فسمعته يقول: (ألست تعلم أن هؤلاء الأنزاك قد جاءوا يدافعون عنك؟ لم لا تعتذر للجندي الباسل!)

إلا أنني لم أعتذر للجندي الباسل، ولم أصدع بما أمرني أبو الهول. وكانت هذه هي أول مرة يعصى فيه أمر للملك خفرع!

وأقسمت إن أنا أصبحت في برلمان مصر فلن أهاتر ولن أسفه، ولن أتهم زعيماً عظيماً بالمروق، ولن أخوض في عرض أحد من المصريين، ولن أفرغ لهذا العبث؛ وإن أنا أصبحت زعيماً فلن أحتكر الوطنية لنفسي، ولن تثيرني تخرصات السفهاء! أليس وجود هؤلاء الأنزاك كفيلاً بأن يشغلنا عن كل شيء؟ لماذا يجدُّ العالم ونهزل؟ لماذا تبكي الإنسانية ونعبث؟ لماذا لا نأخذ عبرتنا من أنهار الدماء التي ضرجت جنبات مصر نفسها؟ لماذا لا نصغي إلى همس الفراعنة؟ لماذا لا يفزعنا هديرك الصخاب يا نيل!

لقد كنا نتعلم في المدارس أن تلال العرب وتلال لوبية تحميانك من رمال الصحراء يا نيل! والحمد لله، إنهما ما تزالان قائمتين بوظيفتهما التقليدية، وما تزال أنت دائباً على فطرتك التي فطرك الله عليها. . . تأتي بالزيادة في ميعادك فتأتي بالخير واليمن والبركات. . . قصة العنبرة السوداء والزبرجدة الخضراء التي رواها عمرو - إلى عمر - ما تزال تمثل على مسرحك إلى اليوم، كما كانت تمثل منذ آلاف السنين قبل عمرو وعمر. . . وما تزال المياه الحمراء تجري من الجنوب إلى الشمال فتنبت الحنطة والبقول وتهتز الخمائل ويُؤتي الأُكل

أفتحميك التلال يا نيل ولا نحميك، وتعطينا ولا نفديك، وتحفظ عهودنا ولا نحفظ لك عهداً، ويقصد بك السوء فلا نقف من حولك جنداً؟! لشدَّ ما كفرنا بغناء بلابلك، وشدو جداولك، وفيء خمائلك، وزلال سلسبيلك، وفيض نوالك، وعبق رياحينك. . . وبكل أياديك يا نيل!

كيف يخصب ثراك وتجدب قلوبنا؟ كيف ينبت الورد في واديك وينبت الشوك في نفوسنا! كيف تدب الحياة في مروجك ويتسرب الموت إلى أرواحنا؟

إن هذه خلائق الصحراء يا نيل! الصحراء. . . حيث الجدب والشوك والحسك. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>