إنها بعيدة من النيل بعض البعد، فكيف أنشئت على هذا الوضع، وما كان لمدينة مصرية أن تُنشأ إلا على ضفاف النيل؟
كانت أسيوط في الأصل على شاطئ نهر يجاورها من الغرب، نهر يساير الجبل من الجنوب إلى الشمال، وقد انطمر هذا النهر، ولم يبق ما يدل عليه غير بقايا من قناطر محطمة كان لها شأن فيما سلف من الزمان
وكان بأسيوط برك واسعة، كالبرك التي كانت بالقاهرة، من أمثال بركة الأزبكية وبركة الرطلي وبركة الفيل
والبركة كانت كلمة مقبولة في الأيام الخوالي، ولها في أشعار البحتري مكان، وقد أخذتها اللغة الأسبانية عن اللغة العربية، وابتذال هذه الكلمة جديد في حياتها اللغوية، فهي اليوم ترادف كلمة المستنقع، ومن هنا قيل (بطينة ولا غسيل البرك)
البركة قديماً هي البحيرة، والبحيرة تصغير بحرة مؤنث بحر، والبحر في أصل اللغة هو مجتمع الماء الغزير، بغض النظر عن العذوبة والملوحة، فما يخطئ المصريون في تسمية النيل بحراً، مع أنه عذب لا أجاج
وأقول إن البرك التي كانت بالقاهرة وأسيوط هي بحيرات، فقد كانت تأخذ مددها من النيل في أيام الفيضان، ثم يبرك فيها الماء بعد انحسار الفيضان، فهي بركة من أجل هذا، إن صح هذا التخريج، وهو صحيح
كانت برك القاهرة كثيرة المنافع، فقد كانت مجالاً لنزهات الأصيل والعشيات في السفائن اللطيفة، وكانت منادح لتوالد الأسماك. وكتلك كانت برك أسيوط، وإن لم يسجل الأسيوطيون بركهم في الأشعار كما صنع القاهريون
والذي يهمني في هذا المقام هو النص على أن برك أسيوط طُمرت كما طُمر النهر الذي كان يساير الجبل، وهذا من أسباب عنف القيظ في أسيوط
لقد حاول عبد السلام الشاذلي باشا تحويل تلك البرك إلى حدائق فتم له ما أراد في بركة واحدة، وبقيت البرك الأخرى في حال من الجفاف تزيد وقدة القيظ
أنا أعرف أن من العسير نقل أسيوط إلى شاطئ النيل في سنة أو سنوات، فلم يبق إلا أن