للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وأمثلة ذلك كثيرة، منها أن المسلمين جميعاً قد اتفقوا على أن الله تعالى منزه عن كل نقص، متصف بكل كمال. فهذه عقيدة قاطعة يعلمها كل مؤمن ولا يختلف فيها عالم مع عالم، ولكن البحث جر إلى مسائل تتصل بها: هل يجب على الله أن يفعل الأصلح لعباده؟ هل العبد خالق لأفعال نفسه الاختيارية؟ هل المعاصي التي يفعلها العباد مرادة لله؟ فاختلف العلماء في هذه المسائل: رأى المعتزلة أن ترك الأصلح، وتعذيب العبد على شيء لم يفعله، وإرادة القبيح، نقص لا يليق بجلال الله وكماله فذهبوا إلى وجوب الأصلح على الله، وإلى أن العبد خالق لأفعال نفسه، وإلى انه لا يريد المعاصي. ورأى غيرهم أن إيجاب نفسه، وإلى أنه تعالى لا يريد المعاصي. ورأى غيرهم أن إيجاب شيء على الله، وعجزه عن خلق ما يفعله العبد، وحصول ما لا يريد في ملكه، نقص لا يليق بجلال الله وكماله فذهبوا إلى أن الله لا يجب عليه فعل الأصلح، وإلى أنه خالق أفعال العباد، وإلى أنه يريد المعاصي. فأنت ترى أن هؤلاء جميعاً لم يختلفوا في الأصل الذي كلفنا الله الإيمان به وهو تنزيه الله تعالى عن النقص ووصفه بالكمال، ولكنهم اختلفوا في أشياء: هل هي نقص فلا يتصف الله بها، اوليست بنقص فيتصف بها، وقد ذكرت كتب التوحيد ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، وأوردت الأدلة النقلية التي استدل بها كلٌ على ما يرى.

على هذا النحو جرى الخلاف بين الفرق الإسلامية في المسائل التي جر إليها البحث في العقائد، وهو خلاف كخلاف الفقهاء في أحكام الفروع التي لم يرد فيها نص قاطع محكم. خلاف لا يصح أن يُرمى أحد فيه بأنه حاد عن الصراط المستقيم، أو ضل، أو فسق، أو أنكر مسألة من مسائل الدين. . . الخ ولكن عصور التعصب المذهبي العنيف حملت للمسلمين تراثاً بغيضاً من التراشق بالتهم، والترامي بالفسوق والضلال، فتبادل الفقهاء أصحاب الفروع نوعاً من التهم، وتبادل المتكلمون أصحاب العقائد مثل ذلك، وتلقف المخدوعون من الخلف هذه التهم وملأوا بها كتبهم، وأسرفوا في الاعتداد بها حتى جعلوها مقياس ما يقبل من الآراء أو يرفض

من هذا كله يتضح:

١ - أنه لا بد في العقيدة من أن يكون دليلها قطعياً في وروده وفي دلالته

٢ - وأن ما لم يكن دليله قطعياً، فاختلف فيه العلماء، لا يصح أن يعد من العقائد، ولا أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>