وذويه، فترك لنفسه العنان، وجعل يبكي أشد بكاء وأوجعه للقلب ويقول:
صريع من الحب المبرح والهوى ... وأي فتى من علة الحب يسلم
وتقدم الناس إلى أبيه أن يخرجه إلى مكة، ويعوذه بيت الله الحرام، لعل الله يعافيه مما ابتلى به. فخرج به أبوه، وسار معه ابن عمه زياد، الذي جعل يلازمه ويدون ما يقول من أشعار وأناشيد. ومروا في طريقهم بحمامة تنوح على دوحة، فوقف المجنون صاغياً لها يبكي، وتخلف معه زياد وقال له: ما هذا الذي يبكيك؟ سر بنا نلحق الرفقة. فأنشد المجنون:
أأن هتفت يوماً بوادٍ حمامةٌ ... بكيتَ ولم يعذِرك بالجهل عاذرُ
دَعتْ ساقَ حرٍ بعدما عَلَت الضحي ... فهاج لكَ الأحزانَ إن ناح طائرُ
يقول زيادٌ إذ رأى الحيَّ هَجَّروا ... أرى الحيَّ قد ساروا فهل أنت سائرُ
وإني وإن غالَ التقادمُ حاجتي ... مُلِمٌّ على أوْطان ليلى فناظرُ
ولما دخل مكة أمره أبوه أن يدعو الله أن ينسيه ذكر ليلى ويبغضها إليه، فقال المجنون: اللهم زدني لليلى حباً، وبها كلفاً، ولا تنسني ذكرها أبداً. فزجره أبوه وأخذه حتى أمسكه أستار الكعبة وقال له: قل اللهم أرحني من ليلى وحبها. فتعلق المجنون بأستار الكعبة. . .
ولكن قال يا ربُّ ... ملكت الخير والشرَّا
فهات الضرَّ إن كان ... هوى ليلى هو الضرَّا
وإن كان هو السحر ... فلا تُبطلْ لها سحرا
ويا رب هب السلوى ... لغيري وهب الصبرا
وهب لي موتة المُضْني ... بها لا ميتة أخرى
(شوقي)
فلما سمعه أبوه رق له، وأخذ بيده نحو (منى) يريد رمي الجمار. وكان الوقت موسم الحج، والطريق غاصة بقوافل الحجاج، تغدو وتروح بين بيت الله لحرام وجميع بلاد العالم الإسلامي. وكان قيس يسير بين أهله متفكراً، يستقبل الريح التي تهب من ناحية نجد، وإذا به يسمع صوت حاد يتجه صوب تلك الناحية، حيث مضارب بني عامر على سفح جبل التوباد. ثم يتعالى الصوت قليلاً قليلاً حتى يظهر الحادي ومن ورائه قافلة تسير، وأنصت قيس، وإذا بالحادي ينشد في صوت عذب حنون: