للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من الغردقة إلى قنا

قضينا الأسبوع الأخير من إقامتنا في الغردقة في إعداد الصناديق وحقائب السفر استعداداً للعودة. وكانت الأيام تمر سراعاً، ويوم الرحيل يدنو مسرعا، وقد أشفقت أن نعود من غير أن أتمكن من الذهاب إلى قنا عن طريق الجبل، ولكن تهيأت الفرصة قبل الرحيل بأيام قلائل فحمدت الله على توفيقه.

وطريق الجبل إلى قنا طويل شاق تقطعه السيارات عادة في ثلاث مراحل: الأولى من البحر إلى مدخل الجبال وطولها نحو ٤٠ كيلو متراً، وهي عبارة عن ساحل كثير الحزون والتلال، والمرحلة الثانية منطقة الجبال نفسها وطولها ٧٠ كيلو متراً. والمرحلة الثالثة من باب مخينق إلى قنا في وادي قنا العظيم وطولها مائة كيلو متر.

وتشتد الحرارة صيفاً في الطريق أثناء النهار لدرجة لا تطاق فكان لابد لنا من القيام من الغردقة ليلا: ففي الساعة الثالثة صباحا كانت تسير السيارات بنا نحو الجبال في طريق صاعدة كثيرة العقبات. وكان الظلام حالكا، والسكون رهيبا شاملا، وهواء الليل بارداً منعشاً ونحن جلوس في صمت عميق، شاخصة أبصارنا نحو مقدم السيارة تتابع ضوءها الكشاف وهو يجلو أمامها الطريق، والسيارة تجاهد مندفعة بسرعة أربعين، والسواق رزين قد استجمع كل حواسه في عينيه، وكل قوته في يديه وقدميه، يقودها باهتمام وحذر، يتلمس الطريق في جوف الليل بمهارة وحذق نادرين - مرت علينا هكذا ساعتان ثم لاحت تباشير الفجر وقد دخلنا منطقة السدود، فكان الطريق بينها خطرا يتلوى في ضيق وانفراج، ثم بزغت الشمس على القمم والروابي فكان منظراً بديعاً حقاً: فجبال شامخات قائمات في استقامة كالجدار، تعلوها كالسهام تناطح السحاب، وقد بدت أطرافها في بوادر الشفق حمراء قانية كأنها تتوقد في أتون من نار، والجبال من تحتها والثنايا والحنايا من حولها في لون ازرق داكن كأنها الدخان الكثيف - ثم علت الشمس. واصفرت الأشعة فبدت القمم كأنها أهرام من ذهب فوق قواعد من رصاص وأخيراً انقشع الظلام واشرق النور فتوارى جمال السحر ليتجلى جمال الطبيعة في حلة الصباح، فكان أشد فتنة وأبلغ أثرا - كنا حينئذ نسير في وادي (بلي) وعن يمننا جبل الدخان (١٨٠٠ متر) وعن يسارنا جبل القطار والوادي بينهما ضيق عميق يخترق الجبال من الشرق إلى الغرب، وهو كثير العشب والأشجار،

<<  <  ج:
ص:  >  >>