العلم على وجه تثبت به العقيدة، وليس معنى هذا أنه لا يحدث علماً لإنسان ما، فإن من الناس من يَحدث العلمُ في نفسه بما هو أقل من خبر الواحد الذي نتحدث عنه، ولكن لا يكون ذلك حجة على أحد، ولا تثبت به عقيدة يكفر جاحدها، فإن الله تعالى لم يكلف عباده عقيدة من العقائد عن طريق من شأنه ألا يفيد إلا الظن. ومن هنا يتبين أن ما قلناه في الفتوى من (أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات) قولٌ مجمع عليه وثابت بحكم الضرورة العقلية التي لا مجال للخلاف فيها عند العقلاء!
وإذ قد عرفنا الفرق بين مناط القطعية في الورود وهو التواتر، ومناط الظنية وهو الآحادية، فهناك بحث آخر يتصل بالتواتر ولابد من النظر فيه، هذا البحث هو: هل يوجد المتواتر في الأحاديث المروية في الكتب المدونة؟ وقد اختلف العلماء في الجواب عن ذلك: فذهب قوم إلى أنه لا يوجد حديث متواتر فيما روي لنا من الأحاديث ودون في الكتب، ولعل هؤلاء بنوا رأيهم هذا على اشتراط عدم الإحصاء في رواة المتواتر، وهو مذهب لطائفة من العلماء كما تبين مما نقلناه في تعريف المتواتر. وقال ابن الصلاح:(لا يكاد يوجد المتواتر في رواياتهم، ومن سئل عن إبراز مثال له فيما يروى من أهل الحديث أعياه تطلبه، وحديث (إنما الأعمال بالنيات) ليس من ذلك السبيل وإن نقله عدد التواتر وزيادة، لأن ذلك طرأ في وسط إسناده ولم يوجد في أوله. نعم حديث (من كذب علي) نراه مثالاً لذلك، فإن رواته أزيد من مائة صحابي وفيهم العشرة المبشرون بالجنة، ولا يعرف حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيا إلا هذا الحديث الواحد)
وذهب آخرون إلى أن المتواتر كثير في هذه الكتب. قالوا:(إن هذه الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً مقطوع بصحة نسبتها إلى مصنفيها، فإذا اجتمعت على إخراج حديث، وتعددت طرقه تعدداً تحيل العادة معه تواطؤهم على الكذب إلى آخر الشروط أفاد ذلك العلم اليقيني بصحة نسبته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب كثير)
وليس بنا حاجة إلى أن نعرف مدى هذه الكثرة التي يراها هؤلاء، ويذكرونها في مقابلة القول بالعدم، أو في مقابلة القول بالندرة وإعياء تطلب المثال، وإنما يهمنا أن نلفت النظر إلى أنه لا يحكم لحديث بالتواتر - حتى على أكثر هذه المذاهب توسعاً - إلا إذا اجتمعت في الشروط الآتية: