للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

على النحو الذي أسلفنا. . . أما لماذا يكون الزارع الأمي أوسع ثقافة من مثل هذا الصانع، فذاك لأنه نشأ على حسن الملاحظة في الريف الزراعي الجميل، فهو لا يحبس نفسه في المصنع طول حياته ليثقب إبرة أو ليصنع رأس دبوس، بل هو ينطلق حراً في فردوسه الشاسع الواسع يشق الأرض بمحراثه، ثم يخططها بالسليقة تخطيطاً يعجز عنه الهندسيون، ثم يقسمها أحواضاً ليس فيها حوض أوسع من حوض، ثم هو يلاحظ خروج الشطء من البذر، ويعرف متى ينبغي سقي الزرع، ويقوم بالحصاد حين يأتي الزرع أُكله، فيبدأ الدرس. . . إلى آخر هذه السلسلة من الأعمال التي يلاحق بعضها بعضاً. . . ثم هو يربي الماشية ويتخذ من ألبانها صناعات مختلفة، كما يربي الشاء والخنازير ويعرف من طباع الطير ما لا يعرف أهل المدن، بله الصناع، ثم هو يستمتع في كل ذلك بالصحة الكاملة والحرية المطلقة، ولا يعيش في جنته عبداً لآلة نجعل الصناع بعد قليل قطعة منها لا قيمة لها لأنها ربما استطاعت الاستغناء بنفسها عنهم. . . وليس المسرح وحده هو الذي يرقى في الأمم الزراعية وينحط في الأمم الصناعية، بل سائر الفنون والآداب، فها هو ذا فن النحت في مصر القديمة واليونان القديمة، وهو ذا فن التصوير فيهما وفي إيطاليا، وهاهو ذا الشعر اليوناني القديم والشعر الروماني القديم. . . شعر فرجيل وهوراس وأوفيد وكاتولوس، وهاهي ذي الفلسفة اليونانية القديمة، وفلاسفة النهضة الأوربية الذين نشأوا في حمى الأستقراطيين الزراعيين. . . وهاهي ذي روائع الفن القديم التي لا يسمو إليها شيء من شوائه النحت الحديث أو التصوير الحديث. ثم هاهي ذي موسيقا القرنين السابع عشر والثامن عشر الزراعيين. . . تلك الموسيقى العلوية التي نشتفي بها ونسكن إليها في القرن العشرين. . .

ومن أجمل ما قرره المستر إرفن هو إقبال الشعوب ذوي الثقافات الزراعية على المأساة المسرحية في حين لا تقبل الشعوب الصناعية إلا على الملهاة. . . والملهاة الخفيفة المرحة التي ترتكز على الشعبذة والنكات الطائرة التي تحلقها المناسبات إن لم تقحم هي نفسها في تلك المناسبات إقحاماً. . . والعجيب أن تروج المأساة في العصور الذهبية للأمم، كعصر بركليس العتيد وعصر إليزابث البهي، حتى إذا أخذت الشيخوخة تحل محل الفتوة في حياة الأمة من الأمم، أخذت المأساة تنزل عن عرشها، متخلية عنه للملهاة الخفيفة الطائشة التي

<<  <  ج:
ص:  >  >>