على أن هذه الحياة المؤلمة انتهت عند حد، وكأن طبيعة دكنز كانت قد صهرت في بوتقة الآلام إلى القدر الكافي، وتهيأت لأن تتجلى في عنصرها المشرق الوضاء، فهاهو ذا والده يغادر السجن وقد سوى مشاكله المالية. وهاهو ذا تشارلز يجد نفسه في الثانية عشرة من عمره تلميذاً بإحدى المدارس بعد أن كان عاملاً في مخزن صباغة! واستمر به الحال على ذلك سنتين
وإنه ليصور لنا، فيما بعد، هذه الفترة من حياته تحت عنوان (مدرستنا) ويصف لنا شخصياتها وحوادثها وقد استقر عليها غبار ربع قرن كامل من الزمان
. . . والآن وقد بلغنا تلك المرحلة من حياة دكنز لا نجدنا بحاجة إلى الإطناب في تتبع بقية المراحل لسبب واضح: ذلك أن خصائص دكنز الأدبية وعناصر تفكيره، وكل مقومات حياته الفنية إنما تكونت في هذه الفترة التي ألممنا بها من سيرته؛ أما ما تلا ذلك من أحداث فهو أشبه شيء بالحاشية تحت المتن، أو الإطار حول الصورة. ولكن الإشارة إليه مع ذلك أمر محتوم لإتمام هذه الهالة المشرقة التي نريد أن نرسمها لدكنز غير مباهين كي تتسنى لنا رؤيته على وضعه الحقيقي وهو في عنفوان مجده وقمة شهرته. . . فها هو ذا يغادر مدرسته بعد عامين ليعمل في مكتب أحد المحامين عاماً وبعض العام. ثم تتجه به نزعته الأدبية إلى الصحافة فيعمل مندوباً برلمانياً لبعض الصحف، وتتفتح أمامه في هذه الفترة من حياته آفاق جديدة. فهو يدرس فن ليستعين به على أداء مهمته الصحفية ويتعرف إلى بعض الشخصيات البارزة بحكم عمله وطبيعة مهنته، ولكن أهم ما يستحق التسجيل في نظرنا هو انصرافه في ذلك العهد إلى التزود بأنواع العلوم والمعارف المختلفة، وتردده الطويل على قاعة المطالعة بالمتحف البريطاني. ويبدو أن هنا كانت مدرسته الحقيقية التي اضطلع فيها بمهمة المعلم والتلميذ معاً. . .
وفي عام ١٨٣١ - وكان في التاسعة عشرة من عمره - أصبح مندوباً لصحيفة , وبعد سنيَّات قليلة كان المحرر الدبلوماسي للمورننج كرونكل. . . منصبٌ وثب به إلى الأمام وثبات بعيدة!
وكان أول إنتاج دكنز الأدبي مجموعة مقالات نشرها في (المجلة الشهرية) بتوقيع ثم ضمنها كتاباً في مجلدين أصدره في ربيع عام ١٨٣٦م