للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لما أزعج أم حصن عن مكانها، ولما أقلقها عن موضعها، ولكنه رجل غليظ لا علم له بالحب، ولا حظ له من الرقة، ولا معرفة له بحسن معاشرة النساء.

وإني لفي ذلك وإذا أنا أحس كأن الأرض تدور تحت قدمي، وكأن كل شيء يضطرب من حولي، ولا أكاد التفت إلى ذلك وأفكر فيه حتى يهدأ من حولي كل شيء، وإذا شخص جميل قد قام مني غير بعيد، وهو ينظر إليَّ نظرة عطف، وعلى وجهه غشاء من كآبة حلوة، وعلى ثغره ابتسامة كأنها ابتسامة الرضى، ولكني لا أعرف شيئاً أصدق منها تصويرا للحزن والأسى، وتمثيلا للوعة والحسرة، ولست أدري كيف لم يرعني مقام هذا الشخص الجميل، فلم أظهر فزعاً ولا اضطراباً، وإنما أنست إليه وحققت النظر فيه فتبينت فتاة غضة الشباب رائعة الجمال، لولا أن شبابها يوشك أن يكون وهماً، ولولا أن جمالها يوشك أن يكون خيالا، تبينت شخصاً حياً متحركاً نضيراً، ولكنه على ذلك لا يخلو من شيء يشبه الموت، ومن شيء يشبه السكون، ومن شيء يشبه الذبول. وهو على هذا كله يذكرني بشخص كنت آلفه ويألفني، وكنت أكبره ويكبرني، وقد فقدته منذ حين، فجزعت عليه جزعاً شديداً، وكثيراً ما سألت نفسي أتراها قد ذكرتني قبل أن تلج باب الموت.

وإني لأنظر إلى هذا الشخص الماثل، وان هذه الخواطر لتمر أمام نفسي وادعة كأنها السحاب الرقيق، وإذا أنا اسمع صوتاً رقيقاً خافتاً حلوا يسعى إليَّ سعياً خفياً من ناحية هذا الشخص الماثل غير بعيد. وإذا هذا الصوت يحمل إليَّ تحية عذبة هي التي كنت اسمعها من صديقتي حين كنت ألقاها وجه النهار، وما اكثر ما كنت ألقاها وجه النهار. اصبح بخير يا سيدي. فأجيب اصبحي بخير يا سيدتي. انك تعرفني أو تكاد تعرفني، انك تذكرني وتسال نفسك الآن كما كنت تسألها من قبل، إذ ذكرتك حين فارقت الحياة وودعت الاحياء، نعم يا سيدي قد ذكرتك وألححت في ذكرك، وكلفت من يقرأ تحيتي عليك، ولولا الحياء لكلفت من يدعوك لزيارتي قبل أن أموت ولكن لم افعل، ولم يعرض علي ذلك أحد من الذين كانوا يحيطون بسرير الموت، على أني لست آسفة فأني لم اخسر شيئاً، لأني لم أفارق أحدا ممن كنت احب لقاءهم في تلك الحياة، إنما أنا أراهم وأسعى بينهم وأتحدث إلى نفوسهم وأسمع منها، وكل ما فقدته إنما هي هذه الأصوات التي كنت اسمعها، وهذه الأيدي التي كنت أصافحها. وثق بأنها لا تعدل شيئاً حين أقيسها إلى ما اسمع الآن من أحاديث

<<  <  ج:
ص:  >  >>