وسعنا أن نتصور مبلغ الوحشة التي كانت تبدو فيهما رواياته لو أنها خلت من هذا الروح الممتع الذي يتألق خلال حوادثها، كما تتألق النجوم اللوامع في ظلمة الليل البهيم
على أن ثمة علاقة وثيقة بين الفكاهة والألم يجتمعان لها في أكثر الأحيان
فقد ذكرنا أن جهاد الرذيلة إنما يكون بأحد سلاحين؛ عرض سورها المشوهة المؤلمة لتأليب النفوس عليها وحشد عوامل الكراهية والبغضاء فيما حولها؛ أو غمزها والسخرية منها ومن مرتكبيها، وإثارة روح التحقير والازدراء بها وبهم. وقد يكون السلاح الأخير أشد نكاية وأعمق أثراً، فضلاً عن سلامة عقباه وسهولة متناوله. والأستاذ (العقاد) كلام نفيس قرأته له في الرسالة منذ سنوات في تعليل انتشار الروح الفكاهي بمصر في فترات الانحطاط السياسي وقيام المظالم الاجتماعية. على أني لست أحاول هنا أن أفترض أن دكنز كان من أهل التقية في محاربة المظالم التي نصب لها، فقد كان له من طبيعة نفسه، ومن حال بيئته ما يؤديه إلى أتم الصراحة ويحمله على أبلغ الجرأة؛ ولكني أقول إنه اجتمعت في نفسه عوامل السخرية وبواعث الألم جميعاً، وإنه استغل هذه الموهبة الفذة التي أوتيها: موهبة الذوق الفكاهي، والقدرة على التهكم اللاذع القاسي، استغلالاً أتاح له أن يخرج نوعاً من الأدب قل أن أتيح لغيره أن ينتج مثله
أهداف وإصابات
كان دكنز يهدف بكل كتاب يخرجه إلى غاية إصلاحية يضعها نصب عينيه، ويتجه في الوقت نفسه نحو رذيلة من الرذائل يحاول أن يهدم كيانها ويجتث أعمق أصولها. فهو يحمل معول الهدم في يد ومواد البناء والتجديد في أخرى؛ أو هو يهدم، يخطط الأوضاع - على الأقل - لمن يقوم بعده بمهمة البناء
ففي صحائف بكويك يعالج - فيما يعالج - مشكلة السجون، ويكشف عن بعض مثالب النظام فيها. وفي مغامرات أوليفر تويست يندد بقسوة المجتمع على الأطفال المتشردين، ويحمل أنظمته الجائرة تبعة انحدارهم إلى مهاوي الرذيلة والفساد.
وفي (حياة ومغامرات نكولاس نيكلباي) يكشف عن مساوئ التعليم الأهلي في إنجلترا، ويوجه النظر إلى أشهر عيوبه كما أنه يعالج مشاكل الأسرة في روايات (عيد الميلاد) ويحاول أن يضع نموذجاً عالياً لمجتمع فاضل قوامه التعاطف والتواد، وملء أفقه السعادة