ملاحظة صادقة وثبت إلى لسان الرجل كأنه لا يلفظها بل تلفظ نفسها بنفسها، وكم تأخر بها الزمن مع هذا الوثوب السريع!
ولا أعرف في الحياة شعوراً كثيراً أشبه به شعوري عند باب المدرسة التي كنت أدخلها عدواً وأنا الآن جامد لديها كأنني تمثال
ولكنني أذكر شعوراً موصوفاً أحسبه أقرب ما يكون إلى هذه المفاجأة العاصفة، وهو شعور الطيار في طوائر الانقضاض السريع، وقد هبط إلى الأرض وارتفع منها صعداً في خلال لمحات
يختلف ضغط الهواء عليه، فيتفجر الدم من قلبه ويطغى على عينيه، فيوشك أن يحجب عنه الأرض والسماء
ولم يختلف هنا ضغط الهواء بل ضغط السنين!
أربعون سنة ترتفع عن كواهل النفس في خفقة جناح، وغشية كتلك الغشية التي تعصف بالطيار عصفت بي صعداً فارتفعت إلى أجواء الثالثة عشرة، وطرحت عن كتفي أعباء اربعين سنة، كانت ترين هناك
وجلست في إحدى الحجرات أتحدث كما يتحدث المنوم يتقهقر به منومه مرحلة بعد مرحلة من عهود العمر حتى يبلغ به سنة معلومة من السنين فيقول له: قف لديك، وصف ما تراه!
فإذا وصف فهو لا يقول لنا: كان هنا وكان هنا قبل أربعين أو قبل كذا من السنين؛ بل يقول: إني لأرى الساعة وإني لأسمع في أذني ما أروي، وإني هنا الآن، ولا أعرف ما وراء ذلك من مشهود ومسموع.
وانقضت على ذلك خمسة أشهر وجاء موعد اليوم الذي كان في حياتي أول يوم. فلم أحتفل بشيء واحد حين احتفلت به، بل كان أعجب العجائب أنه كان موعد ذكريات يضيق بها الإحصاء، كلها من أخطر الذكريات وأكبر المواقف في الحياة، وآخرها في السنة الماضية ذكرى العلمين!
في هذا اليوم بعينه وصلت جيوش روميل إلى العلمين، وأوشكت أن تعبرها إلى طريق العامرية فالقاهرة والإسكندرية