به. . . لأننا نتكلم باللغة العامية ونتعامل بها في حين أننا نقرأ الكتب والصحف ونصغي إلى الراديو والخطب الضافية في المساجد والكنائس، والمحاضرات الضافية في النوادي ودور العلم. . . ثم نحن نكتب في مدارسنا وفي معاملاتنا باللغة العربية الفصحى، أو ما يقارب من اللغة العربية الفصحى. . . وفي مصر اليوم أكثر من ثلاثمائة جريدة ومجلة تصدر يومياً أو أسبوعياً أو كل شهر وكلها مدبجة بهذه اللغة العربية الفصحى. . . من هذه الجرائد ما كان يصدر يومياً في ست عشرة صفحة وفي ثماني وأربعين صفحة محررة باللغة العربية الفصحى وندر ما كان يعثر القارئ فيها جميعاً بغلطة في اللغة. . . ومن مجلاتنا عدد لا بأس به يعني بالأسلوب فلا يسمح بركاكة أو لحن أو إسفاف أو دنو من العامية حتى في أبسط ألفاظها. . . فهل قال أحد إن أي مستمع من عامة الشعب ممن لا يتكلمون العربية الفصحى وممن لا يخطر لهم استعمالها على بال، لا يفهم ما يصغي إليه من موضوعات تلك المجلات وتلك الصحف وما يستمع إليه في خطب المساجد وعظات الكنائس ومحاضرات الوعاظ العامة وإرشادات الإذاعة وأغانيها المنظومة بالعربية من قصائد وموشحات؟
الحق أن عامة المصريين، بل عامة الأمم العربية، تجيد فهم الأساليب العربية وتسيغها. . . ولو لم تكن هذه العامة متعلمة، ولو لم يكن لها بصر بطبيعة تراكيب تلك الأساليب. . . وما دامت هذه العامة تفهم تلك الأساليب ولا تضيق بها، بل هي تلتذها أحياناً وترددها في أغاني كبار المطربين وفي أحاديث الرسول الكريم التي تحفظها عن ظهر قلب، وفي آيات القرآن التي ترددها وتمزج بها حياتها في صلواتها وأدعيتها، وفي آيات الكتب المقدسة الأخرى. . . فليس من العسير أن تحاول الدولة التمهيد لإحلال العربية الفصحى محل هذه اللهجات الدارجة المتعددة، وذلك بتعليم الفتاة المصرية وتنشئتها في بيئة مدرسية عربية لا يؤذن فيها بتعلم لغة أجنبية حتى تبلغ الفتاة الثانية عشرة على الأقل، وحتى تكون قد أنضجت فيها قوميتها المصرية التي نعتبر اللغة العربية أكرم مقوماتها. . . ونحن نلاحظ أن الطبقات المتعلمة في مصر وفي الشرق العربي عامة، أقل استعمالاً للهجات الدارجة من سائر طبقات الشعب غير المتعلمة. . . فمعظم طبقات المتعلمين في مصر وفي الشام وفي العراق يداولون أحاديثهم بينهم باللغة العربية، أو ما يقرب أن تكون لغة عربية خالصة،