جديد في ذلك الفن المصري القديم ونحوا نحوه، وصاروا لا يقفون في التمثيل على ما يرون بعيونهم، إنما عمدوا إلى الرمز في النحت والتصوير لترسل مخيلتك في البحث عما يرمزون فلا يقف نظرك على تفاصيل الجسم أو الرداء بل يلجئك الفنان إلى البحث عما يريد من معنى، وليس من السهل الوصول إلى ما يريد والوقوف عليه. ويمتاز الفنان الماهر بأن يقدم لك ما تقرأ فيه كل يوم جديداً. ألم يحدثنا الصديق الدكتور طه حسين بأن هذا ما نحا نحوه بعض شعراء الفرنسيين؟ عاش مختار في هذا الجو وأدرك سر الأقدمين المصريين، فعمد بالمعاول إلى رسم الطريق للمجددين؛ وبعث من جديد فناً كان يشعر أنه يفيض من حبه لمصر، فغنى على قيثارته (القاهرية) و (الفلاحة) و (بنت الشلال).
أنظر إلى تلك القاهرية تختال في ردائها تجدها الملاك الطاهر في حلم النائم لا تفتر تنظر إليها، ولا يرتد نظرك عنها، ثم تعاودك طيفاً تحار في فهم روحها ولا تجسر أن تبادرها بالسؤال.
أما بائعة الجبن فإنك تراها في صور الأقدمين، لكنها لا تحمل شيئاً بل ترمز إلى الروح، وهي رافعة ذراعيها على هذا النمط. فقدها مختار من قطع بائعات الجبن جميعاً، فيه رقيقة حقاً لكنه أعطاها الصلابة البرنزية وتركها للخلود. . .
رأى مختار مثالاً لشيخ البلد في دار الآثار المصرية، فكان جديراً بأن يصنع مثالاً لامرأته، أنظر إليها تجد جمالاً ووقارا يجلبان الاحترام وقوة معنوية تسحر اللب. . . .
وبنت الشلال هي تخليد بديع مليء بروح ذلك العنصر من سكان الشلال، اهتدى إليها مختار عند وادي الجرانيت فأنطقها تترنم بنشيد النيل والصحراء والشمس المحرقة والحياة الحزينة. . . .
وتلك المرأة في القيلولة تجد في دار الآثار شبيها لها امرأة كانت تخبز، غلب عليها النعاس أمام الفرن فنامت. هي صورة لبعث القديم وإحياء الجديد من الفن
عاش مختار سنين في باريس، وما كان يأمل في الحياة بقدر ما كان يأمل أن يكون له بيت في قرية مصرية بين تلك المصريات ويعبر عنهن بالملكات اللاتي أحب حركاتهن وسكناتهن، يحملن الماء وغير الماء، يأكل مما يحلو لهن أكله، مرتدياً ذلك السروال الواسع الأكمام