من التقاليد الموروثة بمصر احترام الوظائف والموظفين، وقد كان الآباء في عهد الفراعنة يوصون أبناءهم بطاعة الرؤساء، ويحضونهم على تنفيذ الأوامر بلا اعتراض، ليظفروا من مناصب الدولة بأكبر نصيب
وأنا لا أرى في هذا شيئاً من الذلة في طلب المجد، كما رأى بعض الناس، وإنما أراه شاهداً على أصالة المصريين من الوجهة النظامية، فطاعة المرءوس للرئيس يوجبها نظام الأعمال إذا حسنت النيات وزال معنى الخضوع الممقوت
- واحترام الوظيفة في مصر له أصل، فقد كانت الوظائف من أنصبة الأغنياء والأقوياء، وكان مفهوماً أن الرجل لا يظفر بوظيفة إلا إن كانت له عصبية تحميه من الكائدين، أو تعينه على تحقيق السيطرة في الإقليم الذي يشرف عليه بأي صورة من صور الإشراف
ونحن اليوم نخضع لتلك التقاليد خضوعاً يعترف به القلب وإن أنكره اللسان، فمن السهل أن يسأل سائل عن مكانه الأستاذ المازني في الدواوين الحكومية، وكان قبل ثلاثين سنة أستاذاً في مدرسة من كبريات المدارس الثانوية، ومن زملائه من وصل إلى مكانة تضيفه إلى المحسودين بين كبار الموظفين، فماذا صنع المازني بنفسه حتى تخلف هذا التخلف وحتى صار من حق أي إنسان أن يقول له: داعب هذا المنصب إن كنت تستطيع؟
حظ المازني يظهر واضحاً إن تذكرنا ما صار إليه ناصحه الأمين، وهو الأستاذ عبد الفتاح صبري وكيل المدرسة السعيدية، يوم كان المازني أستاذاً بالسعيدية، فقد خضع الأستاذ عبد الفتاح صبري للأنظمة الإدارية خضوعاً وصل به إلى أرفع منصب في وزارة المعارف، وثار المازني على الأنظمة الإدارية ثورة وصلت به إلى العيش من سنان القلم في الجرائد والمجلات
فما النتيجة وما الغاية في حياة هذا وذاك؟
مات عبد الفتاح باشا صبري ميتة الغريب، فلم تبكه وزارة المعارف، ولم يحزن عليه مخلوق، ولن يذكر بغير الملام إن تسامح معه التاريخ!
أما المازني فلن يموت أبداً، وهل يموت رجال الأقلام والآراء؟
المازني من أمجاد مصر الأدبية، وصفحة واحدة من أصغر كتاب ألفه المازني أبقى على