هذا وإنني أرى أن هناك قضية هامة أخرى تستحق الملاحظة والعناية أكثر من جميع الأمور التي ذكرتها آنفاً:
إن الذين يطالعون مقدمة ابن خلدون يقرءونها عادة كما نقرأ الكتب الحديثة، وينتقدونها بوجه عام كما تنتقد المؤلفات العصرية. ومعظم الذين يكتبون عن المقدمة أيضاً ينحون هذا المنحى نفسه، ويميلون إلى وزن الآراء الواردة فيها بموازين المكتسبات العالمية الحالية، من غير أن يلتفتوا إلى القرون الني تفصل بيننا وبين تاريخ كتابه المقدمة المذكورة، في حين أن قيمة المؤلفات القديمة، ومنزلة المفكرين القدماء - في تاريخ العلوم والأفكار - لا يمكن أن تقدر على هذه الطريقة
ذلك لأن كل عالم ومفكر يشترك - بوجه عام - مع معاصريه في معظم آرائهم، فيشاطرهم أكثر أخطائهم، ولا يمتاز عنهم إلا في (بعض الآراء) التي يوفق إلى ابتكارها، و (تعض المعلومات) التي يصل إلى اكتشافها
ولهذا السبب، نرى أن منزلة الباحث والمفكر في (تاريخ العلوم والأفكار) لا تتعين بملاحظة (جميع الآراء الصائبة والخاطئة) المنبثة في كتاباته ومؤلفاته المختلفة، بل بملاحظة (الآراء المبتكرة) التي يسمو بها على معاصريه، و (الحقائق الجديدة) التي يضيفها إلى المكتسبات الفكرية البشرية، و (الخدمات التي يقوم بها) بهذه الصورة، في سبيل تقدم الأفكار والعلوم. . . كل ذلك بقطع النظر عن الآراء الخاطئة التي يبقى فيها مشتركا مع معاصريه بطبيعة الحال
إن عدم ملاحظة هذا الدستور الأساسي في دراسة المفكرين والعلماء القدماء، يحول دون تقدير منزلتهم العلمية حق تقديرها. ومحاذير ذلك تكتسب خطورة خاصة عندما يعود الأمر إلى عظماء المفكرين الذين يكونون في منزلة ابن خلدون، والى أمهات المؤلفات التي تكون على شاكلة مقدمته المشهورة؛ لأن مقدمة ابن خلدون من المؤلفات الجامعة التي تتطرق إلى عدد كبير من المسائل والمواضيع. إنها تتناول بالبحث مسائل كثيرة ومتنوعة جداً، من الديانة إلى التجارة، من النبوة إلى الطبابة، من الرؤيا إلى التربية، من السياسة إلى النجامة، من أوزان الشعر إلى عمران المدن، من مبادئ الموسيقى إلى أساليب الحرب، من موارد الدولة إلى أصناف العلوم. وخلاصة القول أن كل ما له علاقة بالاجتماع الإنساني والعمران