البشري يأخذ نصيباً من بحوث المقدمة. . . فلا ينظر من مؤلفها أن يكون مبتكراً ومصيباً في جميع المواضيع المتنوعة، بل لابد أن يكون ناقلاً لآراء معاصريه في معظم تلك المسائل والمواضيع
فإذا قرأ القارئ مقدمة ابن خلدون من غير أن يراعي هذا الدستور، فقد يعود بفكرة خاطئة تماماً عنها وعن مؤلفها، لأنه قد يبقى تحت تأثير مختلف الأخطاء المنبثة في صحائف الكتاب؛ والفكرة السيئة التي تستولي على ذهنه من جراء ذلك قد تؤثر على محاكمته، فتحول دون التفاته إلى الآراء القيمة المنتشرة في سائر أقسام الكتاب
إن أصول البحوث العلمية تتطلب من كل باحث يقدم على مطالعة كتاب قديم أن يتأمل في كل موضوع من مواضيعه - وكل مسألة من مسائلة - على حده. وأن يعرف حق المعرفة بأن (خطورة الأخطاء) التي تلقى في الكتب القديمة، لا يجوز أن توزن بالموازين الفكرية العصرية، بل يجب أن تقدر بموازين تاريخية خاصة. ولا حاجة لبيان أن هذه الموازين الخاصة لا يمكن أن تتقرر إلا بتتبع (تطورات الفكر البشري) بوجه عام
هذا مبدأ هام يجب ألا نهمله أبداً عند ما نقرأ وندرس مقدمة ابن خلدون. يجب علينا ألا ننسى أنه من رجال القرن الرابع عشر للميلاد؛ كما يجب علينا أن نرجع إلى تاريخ العلوم والأفكار عندما نقرأ كل فصل من فصوله، ونتأمل كل رأي من آرائه، ونستعرض ما كان يقول به المفكرون في هذا الصدد في العصر الذي عاش فيه وفي العصور التي أتت بعده
- ٣ -
إنني لم أقل بهذا المبدأ ولم أضع هذا الدستور تعصباً لابن خلدون؛ بل قلت بهذا المبدأ لأنني وجدته سائداً في تاريخ العلوم والعلماء؛ وسردت هذا الدستور لأنني رأيته رائد القوم على الدوم
وأقول بلا تردد: لولا ذلك، لما استطاع أحد من المفكرين والعلماء السالفين، أن يحتفظ بمكانته العلمية والفكرية في هذا العصر، بين تطور العلوم الهائل وتقدمها المستمر
هذا أرسطو الذي يعد أكبر المفكرين الذين عرفتهم البشرية، والذي يلقب لذلك (بالمعلم الأول). هذا أرسطو نفسه، قد وقع في أخطاء وأغلاط كثيرة وكبيرة جداً في مؤلفاته المختلفة؛ فإذا أراد أحدنا أن يحصيها ويجمعها، استطاع أن يؤلف منها مجلداً ضخماً