ومن الكلمات جملاً، منطلقاً كالسهم، مصيباً كالقضاء؟
وهذا تفكير سليم لو أغفلنا من حسابنا أمر الملكات، ولكن الملكات كائنات من كائنات هذا الوجود، ولها هذا الفعل الغريب، والسحر العجيب. إن النجار الذي اكتسب ملكة النجارة يأتي بأعمال أشد إتقاناً وأسرع ممن لم يكتسب ملكة النجارة. إنه يدق المسمار بالقدوم مائة مرة، فلا تخيب منها مرة، حتى أن صاحبه ليمسك له المسمار وهو يدق آمناً أن تفلت منه ضربة فتصيب يده، ومن لم تكن عنده ملكة النجارة يدق مائة مرة فلا تصيب رأس المسمار منها واحدة
وإن المرء ليعجب للحائك كيف يسلك الخيوط في الخيوط المشدودة بحركة سريعة وإتقان عجيب لا يدخل الخيط في غير موضعه المراد له، ولا يعقد ولا يقطع. وإن الملكة لتدخل في أغلب أعمالنا فتجعلها أعظم إتقاناً وأسرع، وتجعلنا نأتي من الأعمال ما نحتاج إلى آلاف السنين لنعمله لو لم تكن عندنا هذه الملكات. فبالملكات نكتب ونقرأ ونتكلم ونحسب ونعمل في الصناعات المختلفة من حياكة وخياطة ونجارة وحدادة وطباعة مع الإسراع والإجادة والإحسان
ولولا الملكات لما قمنا بهذه الأعمال وسواها إلا مع الخرق والإبطاء كما أريناك في صفاف الحروف الذي لم يكتسب ملكة في صنعته. وإن الزمان لأسرع من أن ينتظرنا، وحاج الحياة شديدة الإلحاح تتطلب السرعة والإجادة، وإن قوة المرء محدودة لا تفي للعمل بدون ملكة لأن ما كان من الأعمال كذلك يقتضي من المرء جهداً ومشقة وتفكيراً تستنفد من قوته ومن دمه وأعصابه ما هو بحاجة إليه
وإنها لحكمة من الله عظيمة أن يخلق فينا الملكات فتجعلنا نجيب مطالب الحياة المتعددة بأقل ما يكون من الزمن، وأيسر ما يكون من الجهد، وأسرع ما يكون من العمل، لاسيما حاجة التخاطب. فالله أرحم بعباده من أن يقف التخاطب على هذه الجهود المضنية، والمتاعب الشاقة، والتخاطب عمل دائم، لا تنقضي منه حاجة حتى تتجدد حاج، ولا يفرغ المرء من خطاب حتى يستأنف خطاباً آخر، ولا يفرغ من فهم خطاب إلا إلى فهم مخاطبات أخرى وهلم جرا. . .
لقد قلنا الآن ما يمكن قوله في أن اللغات في الناس ملكات يقتدرون بها على الإفهام والفهم،