عن القواعد بالسرعة التي لا يبلغها الرجوع إلى القواعد. ولقد بلغ من اهتداء الملكة أنها تكتب المطرد على حسب القاعدة، والشاذ على ما قيل من شذوذ، فهي تكتب داود بواو واحدة، وتكتب بعمرو بواو بعدها، وتكتب مائة بألف زائدة وإن لم تكن في هجائها
فإذا كانت هداية الملكة ما ذكرنا في الكتابة فلا عجب أن تهدي مثل هذه الهداية في الكلام
قال أبو الفتح عثمان بن جني م٣٩٢ في كتابه الخصائص: سألت الشجري يوما فقلت له: يا أبا عبد الله! كيف تقول: ضربت أخاك، فقال: كذاك. فقلت أفتقول ضربت أخوك؟ قال لا أقول أخوك أبداً. قلت: فكيف تقول ضربني أخوك؟ فقال: كذاك. فقلت ألست زعمت أنك لا تقول أخوك أبداً؟ فقال: إيش ذا؟ اختلفت جهتا الكلام. نقل أبو الفتح هذه الحكاية في باب عنوانه أن العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها وحملناه عليها. واستدل بها على أن العرب كانت تعرف قواعد النحو والصرف، ورأى أن ما قاله الأعرابي نظير قول النحاة: صار المفعول فاعلاً
وليس ما ذهب إليه ابن جني من الاستنتاج صحيحاً، فهذا العربي لم يكن يرجع إلى القواعد، وإنما كان يرجع إلى ملكته يستشيرها ويستهديها فنبت ملكته عن ضربت أخوك، ولم تنب عن ضربني أخوك، كما تنبو ملكة الكاتب عن كتابة الهمزة في يئد بالواو وفي يؤمن بالياء، وإن لم يعرف القاعدة ولم يستشرها
لعلنا بذلك قد طمأنا الذين يشفقون على اللغة من أن يكلوها إلى الملكة، ويرون أن الملكة لا تكفي هادية، لأن مذاهب العربية مختلطة متشعبة قريب بعضها من بعض، لا يفرق بينها إلا العقل الواعي والعلم البصير. وقدمنا من الأدلة ما يدل على أنهم إذا وكلوها إلى الملكة فقد وكلوها إلى حفيظ أمين
فليتأمل هؤلاء الذين يصدون - أو سيصدون - عن طريقتنا فيما نحاول، أننا نحاول كسباً جديداً للغة العربية، فبدل أن نقتصر على علم قواعدها تكون لنا ملكة وهيئة راسخة من هيئات نفوسنا وجزءاً من كياننا، وتكون هذه الملكة دعامة لفهم اللغة وتذوقها، ولفهم قواعدها وأصولها دون جهد أو عناء
ليعلم هؤلاء الذين يحبون النحو والصرف وقواعد البلاغة، أننا نحب النحو والصرف وقواعد البلاغة أكثر منهم حين ندعو إلى تعليم اللغة بأسلوب يكون ملكة اللغة في نفوس