للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ورفع الطالب رأسه مصغياً ولكنه لم يفهم ما قاله البلبل لأنه لا يفهم إلا ما يقرأ على صفحات الكتب.

ولكن شجرة السنديان فهمت ما أعيا الطالب فهمه، فاشتد حزنها لأنها كانت تحب هذا البلبل الصغير الذي بنى عشه في أحضانها، ثم توسلت إليه أن يغنيها أغنيته الأخيرة قائلة إنها سوف تعاني آلام الوحشة والعزلة لفقده.

فغناها البلبل أشجى ألحانه، وكان صوته العذب كصوت الماء ينصب من إبريق فضي، ولما فرغ من غنائه نهض الطالب وقد أخرج من جيبه ورقاً وقلما وحدث نفسه وهو يسير في ممرات الحديقة قائلا

(أما ان لهذا البلبل طريقة في لحنه فهذا ما لا سبيل إلى إنكاره، ولكن ليت شعري هل يصحب هذا اللحن شعور؟ أخشى أن يكون هذا الشعور معدوماً، وإذا رجعت إلى الحقيقة فهو كمعظم الفنانين. إن له أسلوباً ولكنه ينقصه الإخلاص لفنه. وانه لن يضحي بنفسه من أجل الغير. ولن يفرك إلا في الموسيقى، وكل إنسان يعلم أن الفن والأنانية صنوان، وعلى أي حال فلن أستطيع أن أنكر عليه ألحاناً جميلة في صوته، ولكنها مع الأسف لا روح فيها وليس ثمة أية فائدة من ورائها).

ودخل الفتى حجرته واضطجع على سريره مفكراً في حبه وبعد هنيهة ظلله الكرى بجناحيه.

ولما أضاء البدر في السماء طار البلبل إلى شجرة الورد، وأسند صدره إلى الشوكة وجعل يغني طول ليلة والشوكة تنفذ في صدره رويداً رويداً، حتى تدفق الدم من عروقه والبدر ينصت إليه في هدوء.

غنى البلبل أولا عن الحب وكيف يولد في قلب كل صبي وصبية، وعند ذلك أسفرت وردة بديعة في أعلى أغصان الشجرة، وكانت تزداد ورقة في إثر ورقة كما كان يرسل البلبل ألحانه لحنا في اثر لحن. وكان لونها أول الأمر شاحبا كلون الضباب الذي يطفو على صفحة النهر، أو كقدم الصبح إذا تقدم يسعى، أو كجناحي الفجر عند طلوعه، كان كلامه حيال الزهرة في مرآة فضية، أو في صفحة بركة ساكنة. ولكن الشجرة أهابت بالبلبل أن يضغط بصدره على رأس الشوكة قائلة: (أقبل بصدرك على الشوكة أكثر مما تفعل أيها

<<  <  ج:
ص:  >  >>