لست أفهم هل فطن أخي هذا إلى ما عنيت، ولكني فهمت من أخي محمد أنني سأجلس لكتابة المقال على مكتب الأستاذ رئيس التحرير!
عند ذلك تعاظمني الأمر جداً، ونظرت إلى مكتب الأستاذ رئيس التحرير نظرة عمقها خمس وعشرون سنة، وطولها حياة مليئة بالذكريات، وعرضها دنيا من الأدب والعلم والتلمذة. . .
أجل يا صديقي القارئ. . .
فلقد كنت تلميذاً للأستاذ الزيات منذ نحو من ربع قرن! وكنت قبل أن ألقاه في المدرسة قد اتصلت به عن طريق كتبه قبل ذاك. . . فلقد أعطاني ابن عم لي قصة (آلام فرتر) لأقرأها. . . أو لأحفظها. . . كما أعطاني صديق آخر كتاب (تاريخ الأدب العربي) ليكون لي نبراساً في مطالعاتي. . . في دنيا الأدب. . . ومنذ ذلك العهد وصلتي بالزيات أقوى صلاتي بالناس جميعاً، ولا أذكر أن الزيات كتب كلمة أو خط حرفا أو أصدر كتاباً لم أقتنه ولم أقرأه ولم أشتغل به
نظرت إلى مكتب رئيس التحرير إذن، وقد تعاظمني أمر المقال المطلوب الذي لم أهتد إلى موضوعه بعد، كما تعاظمني أن أجلس، أنا التلميذ المتواضع المهذب المؤدب - ولا مؤاخذة! - إلى ذاك المكتب العتيد، مكتب الأستاذ العظيم المهذب المؤدب، ذلك المكتب الذي جعلت أحملق فيه مسبوها مشدوها، وأنظر إليه تلك النظرة التي عمقها خمس وعشرون سنة، وطولها حياة مليئة بالذكريات، وعرضها دنيا من الأدب والعلم والتلمذة
كان علي أن أفرغ من المقال - الذي لم أهتد إلى موضوعه بعد - في ساعة، وقد كان أخي محمد يحسب أنه قد غلق علي أبواب الحجرة المقدسة، سيتنزل علي الوحي السريع المؤاتي فأدفع بالمقال في نصف تلك الساعة أو في ربعها، وعند ذلك يفرغ هو كما يفرغ عمال المطبعة الذين كانوا يرتقبون إجازة العيد بالصبر الذي يصفه البلغاء بأنه صبر فارغ - دون أدري لماذا؟
كان أخي محمد يمني نفسه بهذا كله، وكان تليفون الرسالة الموجود إلى يساري في الحجرة المقدسة يرن فيقدم السيد محمد مسرعاً ليتولى المكالمة، وكنت أراه يبعثر نظراته فوق