الصحيفة التي أعدت للمقال المنشود فيراها لا تزال بيضاء. بيضاء ناصعة. أو بيضاء خاوية. . . وكنت أرى نظراته وقد ارتدت إليه حاسرة خاسرة فأرثي له، ولا أرثي لنفسي. . . ولماذا أرثي لنفسي، وقد كنت أستمتع بلحظات سعيدة هن من أعظم اللحظات في حياتي؟ ألم أكن جالساً أضرب أخماساً لأسداس فوق مكتب أستاذي العظيم؟ هذا المكتب الذي ربما كتب عليه الزيات فصولاً من كتابه الثمين في تاريخ الأدب العربي، أو ترجم فوقه فصلاً أو فصلين أو فصولاً كثيرة من آلام فرتر أومن رفائيل. . . أو دبج عنده خمسين أو ستين من افتتاحياته العجيبة التي جمعها في وحي الرسالة ولم يهدي إلي منها نسخة مع ما كان يعرف من مرضي وانقطاعي عن الدنيا إذ ذاك، ومع أنه أهدى منها إلى جميع الناس، بالرغم مما ذكر لي مرة أنه لا يهدي كتبه إلى أحد. . . ذكرت ذلك كله واشتغلت به عن موضوع المقال، وذكرت إلى ذلك كله عهود الصبا وشرخ الشباب. . . أيام أن كان الزيات العظيم آنق معلم معتم في مصر، والشيخ الذي يفتخر الطلاب بالتأدب عليه والتتلمذ له
بيد أن بعض الحوادث سيطرت على كل تلك الذكريات واستبدت بها، فقد كان الأستاذ يملي علينا يوماً تمريناً في البلاغة وكان يملي من ذاكرته دائماً. . . فلما أملى بيتي جرير المشهورين في العيون علق عليهما هذا التعليق التقليدي الذي تحشى به كتب الأدب، من أنهما أحسن ما قيل في العيون. . . وهنا بدا علي شيء من الضيق جعلني أبتسم كالذي يستهزئ بهذا الكلام، فلما سألني الزيات ماذا يضحكني أجبته بصراحة: هذا التعليق الذي تسمح به وبأمثاله كتب الأدب، فسألني: ولمه؟ قلت لأني أحفظ في وصف العيون شعراً هو في نظري أروع من شعر جرير وأنا مع هذا لا أعده أروع ما قيل في العيون، ولا أروع ما ينتظر أن يقال فيها، فسألني أن أتلو شيئاً مما أحفظ، فقلت:
نُجْلٌ تظل حواليها نواظرنا ... صرعى من الوجد فوق الخد والجيد
لهن إعجاز عيسى إن أردن بنا ... خيراً وفيهن أسرار العناقيد
وهنا سألني، أو أمرني، أن أكتبهما على السبورة، فاعتذرت برداءة خطي الذي يلقى منه عمال مطبعة الرسالة الأمرين، فكتبهما الزيات العظيم بيده، وكان خطه دقيقاً أنيقاً جيداً كعهده إلى اليوم، ثم التفت إلي وسألني عن اسم الشاعر صاحب البيتين، فقلت هما لمسلم