للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إذا كانت رائعة أنست بها النفوس، وهشت لها، ووجدت فيها المتعة واللذة

وأما الفائدة فأي فائدة أعظم من التأدب بآداب العلماء، والاطلاع على حكمة الحكماء، والانتفاع بتجارب ذوي التجارب، وهذا كله جعل في طريق تعليم اللغة، والكلمة الطيبة إذا نزلت بالنفس وعلقت بها واستوثقت منها، وأيقنت بها، فإنها تكون هادية ومرشدة، ينتفع بها المرء في غدوه ورواحه، وصبحه ومسائه، كما قال الله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)

والمرء ما عاش بحاجة إلى الأدب الذي به تعمر القلوب، وتزكو النفوس. قال عبد الله بن المقفع: (ولسنا إلى ما يمسك أرماقنا من المأكل والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تفاوت العقول. وليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل. ولسنا بالكد في طلب المتاع الذي يلتمس به دفع الضرر والغلبة بأحق منا بالكد في طلب العلم الذي يلتمس به صلاح الدين والدنيا،) وإن المرء قد يفيده الحرف من الأدب ويكون أرد عليه من جيش عرمرم. قال معاوية: لقد رأيتني وأنا أهم بالفرار يوم صفين وما يمنعني إلا قول الشاعر

وقولي كلما جشأت وجاشت، مكانك تحمدي أو تستريحي فأين من هذا كله القواعد وليس فيها متعة ولا لذة، فليست عاطفية حتى تثير العاطفة والوجدان، وليس عقلية حتى تكون فيها لذة المعقولات لمن اعتاد المعقولات، إنما اللغة مواضعة واصطلاح، وقواعد اللغة شرح وتفسير لهذا الاصطلاح، وليس فيها إلا بعض علل عقلية، وهذا مغمور وسط علل مدخولة، وأسباب غير معقولة.

وكما أنها لا تثير لذة، ولا تبعث متعة، كذلك لا تحصل منها على فائدة. وما الفائدة منها وهي ليست حكمة ولا مثلاً ولا شرحا لقانون من قوانين الحياة، وهي تبعد عن الحياة وتجاربها وعن محيطها الواسع، وبحرها الجياش المضطرب، وأن الذي يقرأ كتاباً في القواعد كالأشموني أو المطول، يخرج منه ولم يستفد خبرة بالحياة، بخلاف من يقرأ كتاباً كالكامل لأبي العباس المبرد، أو البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ؛ فإنه يخرج منه بحكمة الدهور وعظة الأيام، ومهما فاته فلن تفوته حكمة أو تجربة، هي عصارة

<<  <  ج:
ص:  >  >>