وما أظن الأمم الإسلامية منيت بما منيت به، بعد العز والمنعة والقوة والصولة إلا من شغل علمائها وخاصتها طول عمرهم بكتب القواعد التي لا تكشف إلا عن طرف يسير جداً من هذا الكون الواسع، أو بالحرى لا تكشف عن شيء إلا عن مواضعة واصطلاح وتفسير لهذه المواضعة وهذا الاصطلاح، ومن انصرافهم عن هذا الكون الفسيح وعلومه، وعلل حوادثه وأسبابها، وشؤون النفوس وخواطرها، وتزكيتها وتدسيتها
ما هذا الحظ العاثر! قد جمع لنا المتقدمون أبواب الحكمة وتجارب الحياة، وكانوا أحرص الناس على حفظها حتى ينتفع بها من بعدهم، وكان حرياً بنا أن نغترف من هذه الموارد العذبة، ونستقي من هذا السلسبيل الصافي، فكان نصيب النافع منا الإعراض والنفور، ونصيب غيره الإقبال عليه، والكلف به
أي شيء أنفع وأجدى من حكم أفادها أصحابها بعد التجارب المرة، والعثار والخيبة، والتردي والسقوط، وبعد النيل تارة، والإخفاق تارات، وبعد أن ذاقوا حلو الحياة ومرها، وصفوها وشوبها، فأفادتهم التجارب علماً، فجمعوا هذا العلم في جمل قصيرة، وحروف قليلة، لتكون أقل كلفة، وأيسر مؤونة، يسهل حفظها وادخارها إلى وقت الحاجة لينتفع بها
وهنا شيء أرى من الواجب علي أن أنبه عليه، وهو أن اسم الأدب أطلق كذباً وزوراً على تلك الأبيات من النسيب والغزل المذكر والمؤنث، وعلى وصف الخمر ومجالس الشراب، وعلى أبيات البطالة والعجز، وعلى أخبار الفساق والمجان، فيجب أن يتحرز من هذه ولا تدخل في مطالعات التلاميذ ومحفوظاتهم لأن تأثيرها على الأخلاق شديد، وإفسادها للمروءات عظيم، فكم من مستقيم أخرجه عكوفه على هذا الأدب الزائف عن استقامته، وكم من جاد همه المعالي وعظائم الأمور صيره هذا الأدب الزائف مسفاً ضئيل الأمل. ولا يصح أن ينكر هذا كله؛ فإن تأثير القول في النفوس عظيم، ونقضه للأسباب المتينة قوي. ويجب إذ آمنا بتأثير الكلمة الصالحة في النفوس أن نؤمن بتأثير الكلمة السيئة فيها أيضاً؛ فإن المعاني إذا كسيت الألفاظ الرائعة، والنظم البارع كانت حبيبة إلى كل نفس، وكانت مداخلها إلى النفوس خفية، ونقضها للطبائع المحكمة عظيما. ولأمر ما حذر النبي (ص) من كل منافق جهول القلب عليم اللسان.