للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عليه أن يخلق لك قلباً؛ فإن حمل النصال، غير مباشرة القتال

وإنما يبلغ الإنسان غايته ... ما كل ماشية بالرحل شملال

وكان كلما أفرط في درس القواعد والتعمق فيها ظهرت آراء تدعو إلى القصد في درسها والاقتصار منها على ما أقام الألسن. قال ابن السكيت: خذ من الأدب ما يعلق بالقلوب، وتشتهيه الآذان، وخذ من النحو ما تقيم به الكلام، ودع الغوامض، وخذ من الشعر ما يشتمل على لطيف المعاني، واستكثر من أخبار الناس وأقاويلهم وأحاديثهم ولا تولعن بالغث منها

وقال الجاحظ في رسائله: (فصل في رياضة الصبي، وأما النحو فلا تشغل قلبه منه إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن، ومن مقدار جهل العوام في كتاب إن كتبه، وشعر إن أنشده، وشيء إن وصفه، وما زاد على ذلك فهو مشغلة عما هو أولى به، ومذهل عما هو أرد عليه منه، ومن رواية المثل للشاهد، والخبر الصادق، والتعبير البارع. وإنما يرغب في بلوغ غايته، ومجاوزة الاقتصاد فيه، من لا يحتاج إلى تعرف جسيمات الأمور، والاستنباط لغوامض التدبير لمصالح العباد والبلاد، والعلم بالقطب الذي تدور عليه الرحى، ومن ليس له حظ غيره، ولا معاش سواه. وعويص النحو لا يجدي في المعاملات، ولا يضطر إليه شيء)

وقد وجد شعور منذ زمن طويل بتفضيل تعلم اللغة بالملكة على تعلمها بالقواعد، عيب على عمار الكلبي بيت من شعره فامتعض وأنشد أبياتاً منها.

كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم ... وبين قوم على إعراضهم طبعوا

فهذا الشاعر قد فاضل بين الطريقتين، وفضل الطريقة العملية على الطريقة العلمية التقريرية

وكان الناس يأخذون ألسنتهم بالإعراب ويلتزمون العربية في كلامهم. وكانوا يعيبون من يلحن ويحفظونه عليه ويتحدثون به. وما زال الأمر كذلك في النحو والبلاغة حتى نبتت في العصور المظلمة تلك الحماقة التي تقدس القواعد وتجعلها كل شيء في تعليم اللغة وتربية ملكتها؛ وأعطتها قوة العصا السحرية، فما هو إلا أن يضرب المرء بها حتى يستحوذ على لغة العرب فيكتب بها ويخطب ويساجل وينظم الشعر، فأكثروا من القواعد وأقلوا من عرض المثل والشواهد والأساليب، وورثنا نحن عنهم هذه الطريقة وسرنا عليها حتى الآن

<<  <  ج:
ص:  >  >>