للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إلا في عصور انحطاط اللغة العربية. على أن الكتاب الذين عنوا باللفظ أكثر مما عنوا بما ورائه قد خدموا اللغة خدمة جليلة بانتخالهم الألفاظ انتخالاً، وبتجويدهم استعمالها على النحو الذي قربها إلى أفهامنا وجعلها ذخيرة لنا نرجع إليها كل ما أعوزتنا الكلمات أو التعابير، فكان عمل كتاب المقامات والرسائل مثل عمل أصحاب المعجمات والقواميس من حيث تنظيم تلك الثورة اللفظية الهائلة تنظيماً قصصياً أو تنظيماً استعمالياً أفدنا منه في استحداث تعبيرات جديدة لا حصر لها. . . وأنا ألاحظ أن انصراف الأستاذ الحكيم إلى دراسة الأدب العربي وإكبابه على قراءة نصوصه كما ذكر قد أفاده فائدة كبيرة، فقد جود أسلوبه وصقل لغته وأسلس له عنان البيان العربي، آية ذلك هذا الفرق الكبير بين أسلوبه القديم في أهل الكهف وشهرزاد وعودة الروح وبين أسلوبه الحديث في بجماليون وسليمان الحكيم وزهرة العمر. . . على أنني لا أرى أن العناية بالأسلوب وصقله وتجويده تكون سبباً في الانصراف عن تجويد الموضوع والسمو بأهدافه ما دامت للكاتب القدرة على أن يجود عبارته عفواً وطبيعة من غير تعمل ولا إعانات. وقد استحدث جون للي أسلوب (اليوفوزم) في الكتابة الإنجليزية فبهر ألباب القراء الإنجليز بعنايته بتجويد عباراته مما كان له صدى كبير في أساليب الكثيرين من الكتاب الإنجليز وفي روائع شتى من النثر الإنجليزي نفسه

ولست أقصد أن أدافع عن أسلوب الحريري أو البديع أو عبد الحميد أو أبي العلا الكتابي، بل لا أطيق أن أرى الناس يكتبون بأسلوب الجاحظ الذي أعجب به الأستاذ الحكيم وأثنى عليه ووضعه في رأس الثائرين من كتاب العربية على أوضاع الكتابة المتعارفة. وصديقي الأستاذ الدكتور زكي مبارك هو المسئول الأول عن رأي الأستاذ الحكيم في أسلوب الجاحظ العظيم، فلو أنه أهدى نسخة من كتابه الخالد (النثر الفني) إلى الأستاذ الحكيم لما رأى في الجاحظ هذا الرأي. ويحسن أن أثبت هنا رأي الدكتور زكي، وإن كنت ألح على الأستاذ الحكيم أن يراجع (النثر الفني) كله، وإن لم يكن قد فعل إلى الآن:

(وقد شاع هذا الأسلوب في القرن الثاني والثالث (أسلوب الإطناب وبسط المعاني وتأكيدها بتكرير الجمل المتقاربة في مغزاها ومدلولها لدرجة الأثقال) واتخذه الجاحظ خاصة اسلوباً مختاراً له لا يحيد عنه. . . وفي رأيي أن الجاحظ وصل إلى درجة من الغلو والإملال، ولولا أنه كان يخلط في كتابته بين الهزل والجد والحلو والمر لانصرف الناس عنه)

<<  <  ج:
ص:  >  >>