وبينما كان العقاد يسير على نهجه الأصيل منذ نشأته في النقد الأدبي والدراسات الفلسفية والعلمية، وفي دراسة الشخصيات والسير؛ ويتهيأ للمكانة الملحوظة التي بلغها فيما بعد في دراسة التراجم والمذاهب الفنية، ويقطع مراحل التحضير إلى مرحلة النضوج الأخيرة على بصيرة واستواء. كان المازني يتنكب عن نهجه ويسير في غير طريقه وهو يتناول هذه الموضوعات التي يتناولها العقاد يومذاك، إلى أن اهتدى إلى أفضل مزاياه في عام ١٩٢٩ وقبله بقليل. وكان ذلك لخير الأدب بلا جدال
وقد أخرج المازني - وهو في التيه - كتاب حصاد الهشيم وكتاب قبض الريح، والقارئ يعجب لتشابه الموضوعات في هذين الكتابين مع موضوعات كتابي الفصول والمطالعات للعقاد ولتشابه الاتجاه في الرأي كذلك، وإن بقى الفارق الكبير بين الطبيعتين والطاقتين حتى في هذا الطور المختلط، الذي لم يكن المازني فيه يفطن إلى حقيقة مزاياه؟
ولا نحب أن نظلم المازني فنغفل عن عوامل الزمن والبيئة التي كانت تحتم عليه هذا الاتجاه في ذلك الزمان. فأغلب الظن أن الحالة الفكرية وفهم الأدب وتقدير الفنون في هذا الوقت لم تكن تسمح بظهور أديب يكتب على نهج المازني الأخير الذي بدأه بصندوق الدنيا سنة ١٩٢٩ أو قبلها بقليل
وحسبنا لمعرفة هذه الحالة ولتقدير الجهد الذي بذله المازني بجوار العقاد في تصحيح مقاييس الأدب والفنون عامة، أن نعلم شيئاً عن المشكلات التي كانا يعانيان شرحها وهي اليوم في حياتنا الأدبية من البديهيات. فمسائل مثل: وحدة الشعر هي القصيدة لا البيت؛ اللغة وأساليبها تتطور بتطور الزمان؛ التصوير (الفتوغرافي) في الفنون لا يعد عملاً فنياً. . . إلى آخر هذه البديهيات، كانت في ذلك الحين من أعوص المشكلات!
ولقد قرأت بعطف كبير قول المازني في (الحصاد الهشيم)
(ما مصير كل هذا الذي سودت به الورق وشغلت به المطابع وصدعت به القراء؛ إنه كله سيفنى ويطوى بلا مراء. فقد قضى الحظ أن يكون عصرنا عصر تمهيد وأن يشتغل أبناؤه بقطع هذه الجبال التي تسد الطريق، وبتسوية الأرض لمن يأتون من بعدهم. ومن الذي يذكر العمال الذين سووا الأرض ومهدوها ورصفوها؟ من الذي يعنى بالبحث عن أسماء هؤلاء المجاهيد الذين أدموا أيديهم في هذه الجلاميد؟