للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(وبعد أن تمهد الأرض وينتظم الطريق، يأتي نفر من بعدنا ويسيرون إلى آخره، ويقيمون على جانبيه القصور شاهقة باذخة، ويذكرون بقصورهم، وننسى نحن الذين أتاحوا لهم أن يرفعوها سامقة رائعة، والذين شغلوا بالتمهيد عن التشييد!

(فلندع الخلود إذن، ولنسأل: كم شبراً مهدنا الطريق؟) أدركني عطف كبير وأنا أقرأ هذه السطور، وأراجع جهد المازني وجهد العقاد في التمهيد نحو ربع قرن من الزمان، ووددت لو كان المازني بجانبي حينئذ، لأقول له:

(لا يا مازني! إن نصيبك ونصيب زميلك الكبير أكبر جداً من مجرد التمهيد، فلقد بنيت بعد ذلك - على طريقتك - بنايات جميلة نابضة بالحياة في (إبراهيم الكاتب، وإبراهيم الثاني، وفي صندق الدنيا، وفي الطريق. كما أٌقام هو - على طريقته - بنايات سامقة معمورة الأركان. وفي التراجم الأخيرة على الخصوص)!

اهتدى المازني إذن إلى خصائصه وسار أخيراً على نهجه. فما هذا النهج وما تلك الخصائص بالتفصيل بعدما تقدم من الإجمال؟

والمازني فكاهة ودعابة وسخرية. وقد يفهم بعض الذين تصدوا للنقد بلا عدة وافية أنها غاية خصائصه ومزاياه. وهي منها ولها قيمتها في تلوين أدبه بلونه الخاص؛ ولكني لا أراها في مجموعها خير ما في المازني الفنان. فكثيراً ما تقوم دعابات المازني على نوع من سوء التفاهم المتعمد والمفارقات الكثيرة في الحركات الذهنية التي تقابل مفارقات الحركات الحسية في بعض أدوار (لوريل وهاردي) المشهورة، ولو عدل هذا (التوليف) الخاص لفقدت كل مزيتها، وليس هذا من الدعابة العميقة الأصيلة. ولا يمنع هذا أن يصل بعضها إلى القمة حين يلاحظ المفارقات الإنسانية والنفسية وينسي العبث بالحركات الذهنية والمغالطات اللفظية، وأبرز ما يكون ذلك حين يضبط نفسه أو نفس سواه؛ وهي تغالط نفسها لتهرب من مواجهة موقف أو تتوارى من الكشف في وضح النهار، أو تدعي فضلاً ليس لها وتنكر سيئة عملتها. وللمازني في هذا نماذج قليلة نسبياً، ولكنها من أمتع وأقوى ما تحويه الآداب.

أما مزية المازني الكبرى فهي طريقة إحساسه بالحياة.

إذا كان بعض العيون يأخذ الحياة جملة، فعين المازني تأخذ الحياة بالتفصيل، وهي عين

<<  <  ج:
ص:  >  >>